مهرجان الرواية العربية

مهرجان الرواية العربية

مهرجان الرواية العربية

فرضت جائزة البوكر واقعاً جديداً للرواية العربية، وخلقت حراكاً ثقافياً متقدماً، أشبه بالمهرجان السنوي الذي يستمر أربعة أشهر على الأقل، يبدأ لحظة إعلان القائمة الطويلة، ولا ينتهي بالضرورة بتسمية وتحديد الرواية الفائزة، التي تشكل ذروة المهرجان، وتبقى أصداؤه لأسابيع، بين مؤيد ومعارض، وسعيد وغاضب، وناقد وناقم.
هذا المهرجان الطويل، الذي تتنوع وتتوزع فعالياته بين حرص على قراءة الروايات المرشحة، وقراءات روائية، ودراسات نقدية، ومقارنات بين الروايات، ولقاءات مع الروائيين، وطباعة لأعمالهم المرشحة، وانتقادات تطال لجنة التحكيم، وربما أهداف الجائزة وأجندتها والجهات الراعية لها، وأخيراً الاحتفاء بالرواية الفائزة وكاتبها، الذي يتحول إلى نجم كبير، تتسابق إلى اللقاء به وسائل الإعلام والصحافة، وتسعى دور النشر للفوز بطباعة أعماله المقبلة.
لا ينكر أحد أنَّ جائزة البوكر للرواية العربية، دون غيرها من جوائز الرواية، أحدثت ثورة على مستوى القراءة والمتابعة والدراسة للروايات بشكل عام، ولروايات القائمتين الطويلة والقصيرة على وجه الخصوص، وأدى ذلك إلى رواج كبير في سوق النشر، خاصة لروايات القائمة القصيرة، التي يشتد عليها الطلب، حتى ليضطر الناشر أن يطبعها مرات ومرات ليلبي حاجة السوق. ولو لم يكن لجائزة البوكر إلا هذا الفضل لكفاها. فقد حققت ما عجزت عنه مئات المحاولات والمشاريع والبرامج؛ لتشجيع القراءة والحث عليها.
قد نتفق أو نختلف مع لجان تحكيم البوكر، وقد يتهمها البعض بالتحيز، ومحاباة البعض، والإقصاء، والتجني، والإهمال، وسوء الاختيار، والمحاصصة المناطقية، وعدم الاختصاص والكفاءة، ومحدودية الخبرة والتجربة… الخ، من سيل التهم الذي لا يتوقف في كل موسم. وفي المقابل، أي لجنة تحكيم لأي جائزة منزهة عن النقص والانتقاد والاتهام؟ ولا تسلم من النقد كل لجان الجوائز العالمية، وعلى رأسها جائزة نوبل، والبوكر العالمية. ولكن ما يميز جائزة البوكر العربية أنها الأكثر متابعة واهتماماً وأهمية، ومن هنا كان تسليط الضوء عليها قوياً وساطعاً، والعيون مفتحة عليها على اتساعها.
ولنكن واقعيين ومنصفين ونتساءل: ما ذنب لجنة التحكيم في أن تُصبَّ عليها سياط التهم والتشكيك والتشنيع؟ فالأولى أن يوجه كل ذلك إلى مجلس أمناء الجائزة الذي اختار هذه اللجنة. ولا يتحمل أي من أعضاء اللجنة ذنب وجوده فيها. وهذا المجلس هو الذي يجب أن يوجه له النقد بخصوص صلاحية هذا وذاك، مع إنَّ أمر الصلاحية يبقى نسبياً، وغير خاضع لمعايير حدية. ولا يستطيع أن ينكر أحد أن الاشتراك في لجان التحكيم، خاصة في لجنة البوكر، لا يقل عن الفوز بالجائزة، ولا أظن عاقلاً يستنكف أو يرفض الاشتراك، فهي فرصة لا يضيعها إلا معتوه أو ممسوس. والأهمية ليست مادية فحسب، بل معنوية وربما هي الأهم. إنَّ مطالبة البعض باقتصار لجنة التحكيم على روائيين، أو أن يكون جلهم من الروائيين أو من نقاد الرواية، أمر في غير محله، ونرجسية روائية. فلجنة التحكيم ليس من مهامها إجراء دراسات أكاديمية أو فنية للروايات المترشحة، أو تشريح الروايات والتأكد من هندستها وبنائها الفني. فالحكم على الروايات انطباعي بالدرجة الأولى، ويتأثر بالذوق، وخلفية أعضاء اللجنة، ومدى علاقتهم بالأدب عموماً والرواية خصوصاً. ولكن لا بدَّ أن يكون جميع أعضاء اللجنة من المهتمين المعروفين بفن الرواية، من حيث القراءة والمتابعة على الأقل. علماً بأنَّ بعض جوائز الرواية المعتبرة في بعض الدول تعتمد على القراء بشكل كامل.
إنَّ الرواية فن إبداعي يتضمن كل فنون الإبداع الكتابي، من شعر وقصة وخاطرة ومقالة وغيرها، فهي فن مفتوح على مصراعيه، ليس له حدود أو قوالب، على عكس الفنون الأخرى التي لها معايير وشروط متعارف عليها إلى حد ما. ولعل هذا ما يحتم وجود شعراء معروفين لتحكيم الشعر، وكتاب/نقاد قصة لتحكيم القصة، ولكن بالنسبة للرواية يختلف الأمر، وقد يكون اقتصار اللجان على كتاب/نقاد الرواية أمرا مجافيا للمنطق والموضوعية المطلوبة.
وبدلاً من توجيه النقد إلى لجان تحكيم البوكر وغيرها، فإنَّه من الأولى توجيه النقد إلى آلية التحكيم، ابتداءً بالترشيح والفرز واختيار القائمتين، ومن ثم الرواية الفائزة. فإنْ تُوكل كل هذه المراحل والمهمات إلى لجنة واحدة، أمر يفتقر إلى الصواب والموضوعية والدقة المطلوبة في جوائز كهذه لها تأثيراتها وأصداؤها. إنَّ التفكير بآليات أخرى أصبح ملحاً وضرورياً، لأنَّ الآلية الحالية تثير كثيراً من التذمر والحنق والاستياء.
ومن الضرورة بمكان نشر عناوين كل الروايات التي رشحتها دور النشر، لمزيد من الشفافية، وليكون بوسع القارئ والناقد أن يحكم على مستوى الروايات الفائزة بالقائمتين، ومقارنتها ببقية الروايات المترشحة، ومدى تحقق المعايير الفنية فيها. ومن هنا يمكن الحكم على كفاءة وخبرة ومصداقية لجنة التحكيم.
من المؤسف هذا التصعيد الإعلامي بين بعض أعضاء لجنة التحكيم، وبعض الروائيين ممن لم يحالفهم الحظ بالترشح للقائمة الطويلة، أو ممن ترشحت رواياتهم للطويلة ولم تصعد للقصيرة، فالأصل أن يلتزم هؤلاء الصمت التام حيال لجنة التحكيم دفاعاً أو اتهاماً. فأعضاء اللجنة إن دافعوا يصدق فيهم «يكاد المريب يقول خذوني»، والروائيون إن اتهموا «لو تأهلتم أو فزتم لشكرتم ومدحتم». فجائزة البوكر عبارة عن لعبة لها قواعدها وقوانينها، فلا يجوز الخروج عليها لأي من اللاعبين أو الحكام، وهم يعلمون مسبقاً هذه القواعد والقوانين. نعم لكل جائزة معاييرها وشروطها المعلنة، ولكن ثمة معايير وأسس وسياسات مضمرة، هي الأساس في الغالب. وللدخول في اللعبة لا بدَّ من القبول بكل ذلك جملة، من دون انتقاء أو اختيار.
والقبول بالهزيمة أو عدم الفوز والتأهل من شروط اللعبة الواجب احترامها، فللعبة فائز واحد أو اثنين على أكثر تقدير. وإنَّ فوز الرواية أو استبعادها لا يعني بالضرورة حكماً نهائياً عليها. فكم من رواية بقيت في الظل وهي رائعة، وكم من رواية انتشرت وهي عادية تماماً. فرأي اللجنة – أي لجنة – يبقى نسبياً، انطباعياً، تقديرياً. ومن الصعب أن تجد لجنة منزهة، مبرأة من النقص. ونتائج بعض الدورات السابقة تؤكد ذلك، فبعض الروايات فازت بالجائزة وهي لا تستحق أن تترشح للقائمة الطويلة ابتداءً.
وأخيراً، دعونا نلتقي على كلمة سواء، فجائزة البوكر للرواية العربية – على علاتها- نقطة مضيئة في سماء الإبداع العربي، خاصة الروائي منه، وساهمت في انتشار وتسويق الرواية العربية، على الرغم من رداءة بعضها. إنَّ الرواية العربية بعد البوكر ليست كما كانت قبلها. ومن هنا يجب المحافظة على هذه الجائزة وتكريسها من خلال الارتقاء بمستواها والحرص على ديمومتها، وتحسين آلياتها، وتقديم التوصيات لتكون أقرب ما تكون للمصداقية والموضوعية والدقة والشفافية والعدالة، وتعبر حقيقة عن مستوى الرواية العربية. وهذا يتطلب تكاتف كل من يهمهم الأمر من روائيين ونقاد ومتابعين وقراء برفد الجائزة بملاحظاتهم وتوصياتهم واقتراحاتهم وأفكارهم. مع ضرورة أن يستفيد مجلس أمناء الجائزة من تجارب الجوائز الكبرى في العالم وآلياتها.
كاتب اردني
موسى أبو رياش

m2pack.biz