سِكَكُ الغَيْم
أَجمَعُهَا كما لو كُنتُ قرصاناً مهووساً بفردوس مفقودٍ؛ إنّها كنزيَّ، هناكَ، في غرفتي الرّطبة كشفاهِ عجوزٍ تتّلو الصّلوات، حيث أنبتُ شجرةً يتيمةً تعترضُ سِكَّةَقطاراتي، البُخاريّة والكهربائيّة. حسناً، لديّ عددٌ مَهُولٌ منها؛ تَراكَم بحبّ مع الوقت، ما جعل جاريَّ الّذي يصلُ سرواله إلى حلقه، يسخر منّي على نحو غبيّ:
« إنّها ليست غرفة بلّ محطةُ قطارٍ ساكنة».
لا أخفيكم، لقد اعتدت هُراءه هذا غير أنّ وصفه لها بالسّكون يجرحني كلّما أطلقَ قطارٌ صافرته ولم أرحل معه.
عادةً، أستيقظ على نباح المُنبّه عند السّاعة السّادسة صباحاً، الذي لا يتوقف عن سعاره، رغم أنّي أُلقي عظاماً كثيرة على هيئة وعود، مثل: «سأستيقظ بعد خمسدقائق فقط». لستُ كسولاً، أنا مُتأهبٌ كحارس محطّة لكنّي أتأخر في عدّ القطارات قبل النّوم، ولم أنسَ يوماً إلى أين وصلتُ رغم توغلّ الأرق فيّ، ثمّ أبدأبتلميع القطارات الخشبيّة والمعدنيّة، لتصير لامعةً كنجمة في السّهاد. وأشعر حين أفعل ذلك، بأنّي «جان فا الجان» سارقُ الأواني الفضّيّة، من جهةِ الولعِبالمُمتلكات، بعيداً عن الأحقيّة فيها؛ إذ كلّفتني هذه القطارات المحمومة برغبة السّفر عمريَّ كلّه، بما فيه من قطع نقديّة وأوهام. ومن جهة الشّبه بيننا في ضخامةالجسّد وتصلّبه كصرح، وكثافة الشّعر في الأنف واليدين، واللّحية المُشَعَثَةِ خاصّة، ونتوء الذّقن كزاوية حادّة. لطالما كان هذا السّارق حاضراً فيَّ إلى حدّ التّقمص.
إنّي أستغرق في تنظيف قطاراتي مقدار وصولَ قطارات عدّة تقريباً؛ لأنّي أهتم بالمقطورات، واحدة فواحدة. لذلك يستغرب جاري المُلتصق بالأرضّ، السّابق ذِكْرُه،
من حاجتي المُتناسخة للعناية بها: يوميّاً، بالمقدار ذاته، قائلاً: أيّها الأحمق؛ هاجر الغبار بلا عودة كسرب سنونو؛ لفرط جوعه في محطّتك الهامدة.
أغضب على نحو بركانيّ، وسرعان ما أخمد، فالحقيقة ماءٌ أُجاج ولست جمرةً مقدّسة لا تنطفئ: القطارات المُتناثرة، كأشلاءٍ ليستْ عاطلة عن الحياة؛ إنّها على قيدالحركة قاب صفّارة أو أكثر، ومقطوراتها كلّها في عافية وتنتظر إشارة عبور غير أنّي سِكَّتها.
أرى جسديَّ حين يسرقني «جان فا الجان» لحظة الشّرود أو النّوم: قِطَعاً من غيمٍ على هيئة سكّة شاسعة وقاحلة؛ تعبرها القطارات، تلك الّتي توقفت عن تلبيّةنداء السّماء؛ كي لا أرحل.
سورية
نهى حسين