نيازك ممدوح قشلان تضيء عتمة دمشق

نيازك ممدوح قشلان تضيء عتمة دمشق

نيازك ممدوح قشلان تضيء عتمة دمشق

كيف تسجن مدينةً كاملةً بكلّ تفاصيلها، بأهلها نساءً ورجالاً، بحاراتها، بيوتها، حجارة طرقاتها أشجارها، أصوات عصافيرها، بتكبيرات مساجدها و أجراس كنائسها داخل قضبانٍ ملوّنة حمراء و صفراء و خضراء…
كيف تمسك سمواتٍ سبع و شمساً ساطعة و تطويهم على أرضٍ بكرٍ بيضاء، تحتجزهم لتحررهم بعد ذلك في كلّ أرجاء العالم في المتاحف والقصور الملكيّة، مثل متحف البانودي لوكانيا في إيطاليا، ومتحف غابروبو في بلغاريا، ومتحف الفن الحديث بالقاهرة، ومتحف منيتيغرو، ومتحف الفن الحديث في تونس، وقصر بلدية لين في فرنسا، إنّها معجزةٌ خالصة أن تحيي مدينةً في بلدانٍ بعيدة لم تكن إلا للنبي الدمشقي ممدوح قشلان المشارك الأهم في تأسيس نقابة الفنون الجميلة في سورية عام 1969، و أحد مؤسسي اتحاد التشكيليين العرب عام 1971 (مواليد دمشق عام 1929)، أحد التشكيليين السوريين الروّاد، الذين أسسوا لطريقة متميّزة ومتفرّدة في خريطة الفن التشكيلي السوري، فهو ممن بدأوا في بلورة الفن المحلي المعاصر والإحاطة بمعالمه وإدخال الثقافة الفنية الغربية والحداثية إليه عبر خطى جريئة سعياً لتقدم هذا الفن وانتشاره وتقبّله على كافة المستويات، ولم يحد هذا من انتمائه لجذوره الثقافية والاجتماعية، وبذلك كوَّن فناً أرضى الشرق والغرب، ففي الشرق يرى المتلقي ذاته وبيئته صريحة في أعماله، وفي الغرب يرى المتلقي عالماً يشبع فضوله ومعرفته لجماليته، وبكلمةٍ موجزة يبقى فن قشلان رسالة من الشرق إلى الغرب كما قال الدكتور عفيف بهنسي في تقديمه لكتاب (رسالة لونية من الشرق إلى الغرب: ممدوح قشلان مسيرة إبداعٍ) فممدوح قشلان ومنذ تجاربه الأولى روّض المواضيع الشعبية الخام التي تلامس حياة المجتمع الدمشقي وبيئته، من خلال تناول فني واقعي بحلةٍ جديدة تتراوح ما بين الاتجاه التكعيبي والاتجاه التعبيري بأسلوب ميّز نتاجه عن باقي التجارب الفنية، ليساهم في النصف الثاني من القرن الماضي وفي مراحل زمنيّة حرجة في تأهيل التشكيل المحلي وفتح المجال للبحث عن هويته.
أعمال قشلان ليست لوحات صامتة بل لها صوتٌ عالٍ يحكي قصصاً عن مدينةٍ عتيقة ترقد في قلبه، و تصوّر طقوسها الاجتماعيّة و الدينية كأفلامٍ قصيرة تمر أمامنا فالميلوية تدور داخل لوحاته حاملةً إيّانا نحو عالمٍ صوفي، صوت ضحكات الأطفال و هم يحتفلون بالعيد يعلو و يعلو، أمام الحمام الدمشقي يصيبك البلل بماء دمشق المقدّس، و بصوتٍ عالٍ تردد الأحرف وراء شيخ الكتّاب، تسير في حارات دمشق القديمة تسند جبهتك على حائطها القديم، و تسمع تاريخها، إن اهتمام قشلان بالتفاصيل المعمارية يحملك إلى هناك دون أن تدري.
يميل ممدوح قشلان إلى حد كبير لتسجيل حالات إنسانيّة و جماليّة ويتضح هذا من خلال النور والظل المعبرين عن سحر المكان و من خلال اختيار اللون و درجاته وتنوعه مما يعطي دلالات عديدة، فالألوان الحارة المستخدمة في أعمال ممدوح قشلان تنقل الدفء لنفسك و تملؤها بالحياة، درجاتٌ من الأزرق والأخضر مع قليلٍ من الأحمر والأصفر تفرش حقول السماء، بعض التفاصيل الملونة بحزمةٍ كبيرةٍ من الألوان، تمر كنيازك تضيء عتمة الحارات القديمة و تكمل المقطوعةَ اللونيّة بتناغمٍ تام مع الشخوص والعناصر الأخرى في العمل و التي تنحصر عملية اختزال وتبسيط كلٍّ منها على سطح اللوحة ضمن وحدة لونية وصياغة واحدة تسيطر عليها بعض مبادئ الاتجاه التكعيبي التي تظهر في تقاطعات اللون دون العنصر التشكيلي، والمقصود هنا العنصر أياً كان على السطح والملاحظ في كافة الأعمال أن المنظور ينحرف عن الواقع قليلاً في محاولة إبداعية واضحة في ابتكار منظور يخدم اتجاه الفنان والأسلوب المحيط بتجاربه، فرسوم قشلان تعكس إلى حدّ بعيدٍ في بنائها المتأني وتكويناتها الثابتة شخصيته العتيدة مصدقاً لمقولة (إن الأسلوب هو الإنسان) فممدوح قشلان الدمشقي المشرق النابض بالحياة بأسلوبه وأعماله هو اللوحة الأهم في الفن السوري .
ناقدة سورية
بسمة شيخو

m2pack.biz