مكتبة تمشي على قدمين!
وضعتُ منشورا على جداري في «الفيسبوك» في اليوم العالمي للكتاب، الذي صادف الرابع والعشرين من أبريل/نيسان الماضي، قلت فيه: «في اليوم العالمي للكتاب أقول شكرا لأستاذي الدكتور وليد محمود خالص، الذي علّمني كيف تُعشق القراءة»، فعلّق أحد الأصدقاء قائلا: «كيف أعشق القراءة؟».
سؤال على أهميته لم أجد ردا عليه في حينها؛ لأننا – على تمجيدنا للقراءة ومدحها – لا ندل الناس غالبا على سبل عشقها أكثر من نصائح جاهزة كغيرها من المعلبات الموثوق بصحتها ويحدث ألا نستلذ بأكلها!
وكما يحدث أن يقود أحدهم إلى عشق القراءة بأساليب جلية أو خفية، يقود بعضهم الآخر إلى كرهها بأساليب مشابهة، ومن أولئك الذين يقودون إلى عشق القراءة كان الدكتور وليد محمود خالص.
عرفت الدكتور العراقي أستاذ النقد القديم وليد محمود خالص – عن قرب –في صيف 2003، عندما راح يدرّسنا مادة (فن السيرة الذاتية) بوصفها مادة تخصصٍ اختيارية، وكان الدكتور خالص إذ ذاك رئيسا لقسم اللغة العربية في كلية الآداب في جامعة السلطان قابوس. ومع مادته ومعه بدأتُ رحلة جديدة في الحياة. ورغم أنني لا أعرف تأثير الدكتور خالص فيمن درّسهم معي أو قبلي وقد كنا مجموعة كبيرة من الطلبة والطالبات من مختلف الدفعات غير أنني ما عدت أنا بعد مادته هذه، ولا أحسبه يعرف عن تحوّل صنعه في حياة إحدى طالباته التي هي أنا!
لم يكن الدكتور خالص يقدم نصائح بأهمية القراءة مطلقا، ولا كان يكرر عبارات يغترفها من تلك العلب الجاهزة عن القراءة وأهميتها، وإنما كان يأتي شيئا مغايرا؛ يدهشك بطريقته في القراءة من دون أن يكرر عبارات من قبيل: «اقرأوا هذا وطالعوا ذاك». كان يكفي أن تحضر محاضراته لتشعر برغبةٍ بعدها في التوجه إلى مكتبة الجامعة مباشرة؛ فهو لا يتحدث عن محتوى الكتاب، ولا عن ضرورته للمادة التي ندرسها، وإنما يخبرنا عن التقاطاته فيه وفي غيره، ويترك لنا دهشة الفضول لنهرول سعيا خلف الكتاب الذي كان يتحدث عنه والكتب التي في مجاله.
ويحدث كثيرا أن يُحضر معه كتابا مما له صلة بموضوع المحاضرة – ويكون قد وضع علامة على صفحة بعينها – ويتخير لحظة ما يضع فيها نظاراته على عينيه ويقرأ ما يعتقد أنه لافت للنظر في الكتاب، فيضيء ما بين سطوره على نحو وكأنك تقرأ الكتاب وشيئا آخر لن تجده إلا عند الدكتور خالص. ولطالما قادتنا مناقشاته إلى البحث عن الكتب في مكتبات الجامعة، نمررها على بعضنا كضرورة معرفية يُشعرنا بها من دون أن يقول ذلك صراحةً.
ولعل أكثر ما أدهشنا في علاقة الدكتور خالص بالقراءة، قدرته على تقدير عمر المخطوطة من رائحتها! وهذه قدرة لا تتأتى إلا لمن عاش بين المخطوطات وخَبَر روائح السنين فيها، على نحو لا يتحقق مع كل خبير بقديم الكتب وأوراقها. يفعل كل ذلك من دون أن يتشدق بعدد الساعات الطوال التي يقضيها في المكتبات أو في مطالعة الكتب في بيته.
وغني عن القول إن الدكتور خالص كرس حياته للمخطوطات، وقدم خدماته الجليلة للمخطوطات العمانية طوال مدة بقائه في عمان، منذ ما قبل عام 98 – كما أحسب – وحتى غادرها في عام 2012، بُعيد احتفائية نظمها له النادي الثقافي تقديرا لإسهاماته في المشهد الثقافي العماني، فاختار أن يتحدث في ليلته تلك عن المخطوطات العمانية واقعها وتحدياتها، على نحو يجعل من مغادرته للسلطنة خسارة كبيرة طالما بقيت هناك مخطوطات تحتاج إلى شخص مثله يعرف كيف يغوص في أغوارها باحثا ومحققا، وما أكثرها!
سأقول: يصعب إغراء المرء بالقراءة ما لم يكن مؤمنا بأهميتها، ولكن يحدث في أحايين كثيرة أن نؤمن بأهميتها غير أننا لا نجد في أنفسنا توقا إليها! وليس يسيرا على المرء أن يدل غيره إلى سبل عشقها ما لم يكن متخلقا بخلقها؛ فبهذا وحده تنتفي الحاجة إلى القول والنصح بشأنها، ما دام سلوكه سفيرا إلى الناس من حوله، وكافيا ليشعرك بأنه والقراءة شيئان لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر. هكذا كان الدكتور خالص، ليس قارئا وحسب، وإنما مكتبة تمشي على قدمين.
كاتبة من سلطنة عمان
منى بنت حبراس السليمية
وما اسم جدارك على الفيسبوك؟