يقول المفكر الاجتماعي الدكتور علي الوردي في كتابه “وعّاظ السلاطين” إن من خصائص الطبيعة البشرية أنها شديدة التأثر بما يوحي العرف الاجتماعي إليها من قيم واعتبارات، فالإنسان يود أن يظهر بين الناس
بالمظهر الذي يروق في أعينهم فإذا احترم الناس صفة معينة ترى الفرد يحاول شتى المحاولات للاتصاف بتلك الصفة وللتباهي بها والتنافس عليها ” أي أن الإنسان صنيع حضارته ومحيطه الذي يعيش به؛ فهو يتأثر
أيما تأثر بالمعالم التي تتفاعل حوله، فهو أيضاً لا ينفك أن يتقمص تلك الظروف التي تحيط به ويتخلق بها، وهذا مؤكد في علم الاجتماع, وكما أن هذا التطبع ينطبق تماماً على أخلاقيات الإنسان كذلك ينطبق
على فكره وجوهره الروحي، فحين يؤمن إنسان ما بفكرة ذات أبعاد واتجاهات معينة يشاركه في الإيمان بها كثير من الأشخاص الذين يعيشون حوله، فأنه لا يجد غضاضة في البوح بها والتحدث عنها؛ بل الاستماتة
في سبيل نشرها والإعلام بها، وعلى النقيض من ذلك عندما تكون الفكرة المختزلة في عقلية ذلك الوحيد في عالمه الداخلي؛ يكون البوح بها يمر باعتبارات كثيرة؛ منها ماهو متعلق بشخص الإنسان حامل الفكرة
ومدى قدرته في بذلها وإقناع المحيط بها، ومنها ما هو متعلق بمحيطه وهنا تكمن صعوبة إبداء الأفكار إن كان المجتمع غير متقبل لها أو أن تلك الأفكار جديدة في نوعها ومضمونها، فإن التصنيف الأولي
للمجتمع تجاه تلك الفكرة أو مجموعة الأفكار سوف يكون تصنيفا سلبيا رافضا لها ولو بالحديث عنها أو تسويقها، وسيجعل من هذه الفكرة عدواً يهدد معتقده أو ما تعارف عليه مجتمعه؛ لذا كان من المهم
أن يكون نبي الفكرة أن يمهد لرسالات فكرته، وأن يعي أولا مدى تقبل عقلية مجتمعه لتلك الفكرة أية فكرة قد تكون غريبة في نظر محيطه، ولما كان الإنسان ابن بيئته فإنه كذلك بطبعه مدني اجتماعي يحب
أن يتعايش في هذه الحياة يحمل بين جنباته عقيدة ومبدأ وفكرا، وتختلف من شخص إلى أخر مدى قوة إيمانه بهذه الركائز الوجودية للإنسان كإنسان مجتمعي متقبل للتغيي؛ فمنهم من يؤمن بعقيدته دون إيمانه بالمبدأ
والفكر، وهنا قد ينطبق على هذا الإنسان مسمى الإنسان الفطري البحت، ومنهم من يؤمن بعقيدته ومبدئه دون الفكر، وهنا قد ينطبق عليه مسمى الإنسان الثابت والمتعايش مع ذاته فقط، لا يهمه متغيرات عالمه من حوله،
وهناك من يؤمن بالمعتقد والمبدأ والفكر؛ وهذا الإنسان المنشود في تأسيس حضارة إنسانية واعية متقبلة للتغيير رافضة للتقليد، فعقيدة دون مبدأ شبيهة بإنسان ناقص الأهلية، فتعامله محدود في عالم مليء بمتغيرات كثيرة
ومعقدة، وعقيدة دون فكرة كإنسان منعدم الأهلية فتعامله منعدم لا وجود له، ولا يمكن لها أن تحدث أثراً في بيئته، هكذا الإنسان بطبعه وركائز الوجود الإنساني الثلاث عقيدة، ومبدأ، وفكرة، يعيش الصراع مع ذاته إن كان ذا تميز في ركائزه،
إما إيجاباً بالتوافق مع مجتمعه فيحتم عليه الواقع التباهي بالصفات التي قد يرضى عنها مجتمعه فقط دون ذاته، أو سلبا إن كان مخالفا مناقضاً وثائراً على عادات مجتمعه وبيئته؛ فيعيش حالة الشذوذ التعايشي والانفصال عن بيئته.