الدموع كلام العيون
قالوا عن الدموع: إنَّ الدُّموع ليست قطراتٍ بل كلمات، وقيل: هي اللّغة عندما نعجَز عن التعبير، وقيل: هي اللُّغة التي يُتقنُها كلُّ إنسان.
وقالوا شعرا
فلمَّا خشِيت على مُهجتي… أذعْتُ الهوى بلسانِ الدُّموع
وقيل أيضا: إنّ الدموعَ هي الصَّبابةُ فاطرح…. بعضَ الصَّبابة تسترح بهمولها (بنزولها)
فالدموعُ أنواع ولكلِّ دمعةٍ قصةٌ تُروَى ودموعُنا نحن أبناء سوريا لحنُها منفردٌ؛ لأنّ وترها القلب؛ ولأنّ مقطوعتها مأخوذةٌ من أشلاء أطفالٍ وفتيانٍ وشبابٍ وكهول وشيوخ، فهي ما وفّرت خدّا إلا وسارت عليه وما تركت سطرا إلا وشاركت كلماته.
معزوفةُ الدَّمعةِ السورية طعمها لا كطعم الملح، بل هي خليطُ دمٍ وقهرٍ ومذلةٍ وهوان، دمعةٌ تحار كيف تستطيع النُّطق وتيأس من سلاح النطق، وهي تلحظ بشفافيتها وينعكس في بريقها تجاهلُ الكون للناطقين عنها. دمعةٌ تنسالُ على الخدودِ معلنة انكسارَ الإنسان أمام الإنسانية وكفرَهُ بوجودها.
هذه الدمعة لن تكون مجردَ قطرات ماء، هي هطل ألمٍ في تربةِ القلوب التي أقفرت من بني إنسان، لتُشرَعَ أمامها فضاءاتٌ أخرى لا تدركها عقول جماداتٍ تتحرك بشكل إنسان، إنّها فضاءاتٌ من عالم آخر عالمٍ لا ذلَّ فيه ولا هوان، عالمٍ عنوانه الإنصاف عالمٍ يشحن الهمم ويزيل الظلال التي تقف عائقا ومكبِلا للقدرة الذاتية عالمٍ يدرِك فيه من يدخله أنه ليس جرما صغيرا ولا هملا ولا سقط متاع، عالمٍ تتصالح الروح فيه مع جسدها وتتنشق حريتها فلا يبقى الجسد قفصا يحتجزها بل سكنٌ ألِفته وألفها عالم لا تُعلن فيه نهايةٌ؛ لأنّ النهاية هناك لا إدراك لها لموتِ معانيها ودلالاتها، عالمٍ يُدرَك فيه أنّ هذه الدنيا هي العدم وما بعدها الوجود والديمومة والبقاء.
وتستمر الدمعةُ بعزفها وألحانها تغُيِّر نمَط الحزن لتولِّد منه مرجلَ أمل ومع ألقِ دمعةٍ ومع تتالي الألحان تلامس السلاسلُ الدمعية شفاهنا لتصبح ذات بريقٍ جديدٍ، وهي تتفتق عن ابتسامة تكون صورة يحار معها الفنان كيف يرسمها وهي تتعانق مع ابتسامةِ ثغرِنا ابتسامةٌ تتماهى مع الدمع لتذكرنا بالورود الجورية التي تلامس قطراتُ الندى ثغورها مع إشراقة شمس صباحية فتبرق الورود كأن الحياة ترقص وهي ترى منظرها، ابتسامةٌ تهزأ من ظنِّ الظالم أنه تمكّن من مخلوقاتٍ تنافسه في الوجود، وتعلن له أنها مساوية له في الشكل والمعنى والمفهوم، ابتسامةٌ تهزأ مع الدموع بكلِّ من يظن أن السوري انتهى وأن قضيته تبعثرت في مهب رياحٍ غريبةٍ أضاعت سمته وأضاعت آماله وجعلته يمسك بالسراب، ابتسامةٌ تهزأ بكل من يظن أن النهاية تكتب بالموت ولا يعي أنّ الموتَ عنوان بدءٍ للحياة، فالدمعة السورية تشارك دموعَ المظلومين في الأرض، وتعلن بجيوشها الكرّارة أنها هي المرحلة التي تسبق فهمَ وإدراك الوجود لتذوق معنى الفرجِ الحقيقي والأملِ الحقيقي الذي لا ينتهي بانتهاء حياة، بل يمتدُّ بسببٍ إلى ما بعد بعد الحياة، وبهذا تصبح دموعُنا يا مظلومي الدنيا إكسير فرجِنا وعنوان أملنا بحياةٍ حقيقيةٍ، لا يفسدها وهم ظلٍّ زائل، ولا يربك فرحتها قلقُ نهاية.
كاتب سوري
محمد خالد الفجر