جدران
الحجب تتكاثر في كل مكان، تتوسط العوالم لتجعل منها حيوات لا تُدرك بعضها بعضاً، وهي بين هذا وذلك لا تملك إلا روح الحجر.
ال تتأبط بعضها لتشكل الحياة الشخصية لكل إنسان، فما يفصل بين حياتي وحياة أخي ليس سوى أكثر من طابوق متراصف ليشكل غرفاً نكوّن فيها عوالمنا الخاصة. عوالم نتكاشف فيها مع أنفسنا، ونبني من خلالها جسور المعرفة التي نتشكل من خلالها، وعن طريقها نكوّن علاماتنا الفارقة.
فال حافظة الأسرار، نتعرى بين أضلاعها كأننا نتعرى داخل الروح، ونتجول بين أكفها طائرين كما الحمامة وهي تمتلك سماءً وحيدة، أكثر زرقة من السماء التي ترفرف تحت سقفها آلاف الطيور. سماء وحيدة لحمامة وحيدة، ك معزولة لجسدٍ طائرٍ كالريح.
الجدار خازن الحياة، ننام مطمئنين حين تتصافح ال لتشكل علبة نتنفس فيها هواءً خاصاً لا يشاركنا فيه أحد. والجدار صانع اللذة، فما نغلق عينيه اللتين نسميهما نافذة، وفمه المؤطر بأقفال تتآكل مع الوقت، حتى نشعر بحرارة الأجساد. والجدار سبورتنا الدائمة، نتعلم عليها كيف تبدأ لوحاتنا بخربشات طفل، وتتصاعد حتى نتهجى الحروف والأرقام، وكلما نصبغها يأتي أطفال جدد يتخيلونها سبورة يخربشون عليها أحلامهم القادمة.
لكنه يتجاوز أحياناً وظائفه الكثيرة ليشكل عزلتنا عن العالم أيضاً، فكلما اتسع الجدار كلما زادت عزلتنا. تفصل دولاً وتقيم مدناً معزولة. كبيرة تبني معها فلسفاتها الخاصة وآيديولوجياتها المربكة، عازلة تصنع سياساتها. جدار برلين فصل عالمين متناقضين، شرقي وغربي، اشتراكي ورأسمالي، حتى تحنطت على أسواره شرنقات، وتيبست فوق طابوقه الضحكات.
وال أيضاً سرقت أرصفتنا، كتلٌ من الكونكريت لم تقو شوارعنا على تحملها، فرمتها صوب الأرصفة التي دفعت أقدامنا بعيداً، فلا الرصيف جنينا ولا شوارعنا التي أكلتها العجلة.
من أين أتت ال بهذه القدرة على التحول؟ وكيف استطاعت أن تلون نفسها لتحفظ الحياة وتصنع اللذة وتقيم العزلة؟ وكيف تحملت أجسادنا ونحن نتسلقها لنرمي بحقائبنا هرباً من المدرسة؟ وكيف حافظت على جلدها ونحن نثقبها بالمسامير لنعلق عليها صورنا، وكلما مرت أعوام زاد الطرق وانغرس المسمار عميقاً، خارقاً روح الجدار، فلا سمعناه يئن، ولا سقطت من عينيه الدموع، ولا اشتكى يوماً من الأقفال التي ترزح تحت الصدأ.