حل لأزمات دولية في سورية وليس لحربها المدمّرة
لا عتب على المجتمع الدولي تجاه الأزمة السورية، فقد أولاها اهتماماً زائداً، وقدم لها أكثر مما يمليه عليه واجبه، اجتماعات لا حصر لها، ومنتديات ومؤتمرات على أعلى المستويات السياسية الدولية، وقرارات لتسوية الأزمة، ومبعوثين أمميين لتنفيذها، ودولة عظمى تكرس ثقلها العسكري والسياسي لحلّها، وحلفاً ثلاثياً يهدّئ الأمور ويمتص التصعيد في الميدان، ومجلس الأمن يجتمع شهرياً لمناقشة تقارير مبعوثيه، ومؤتمرات مختصة بالتفاوض أحدها سياسي (جنيف) وآخر عسكري (آستانة) وثالث للحوار الوطني (سوتشي). هذا الاهتمام العالمي إمّا أنه فاض عن حاجة الأزمة فارتبك وأربك، أو أنه يحلق خارج سرب الأزمة بحدودها السورية، ويقيناً أنه يعاني من الأمرين، فالحل السياسي الذي يعمل عليه المجتمع الدولي هو حلٌّ لأزمات دولية في الأزمة السورية، ولم يعد الهمّ الأممي مقتصراً على دحر الإرهاب، أو تأمين ملاذ آمن له في مناطق سورية، فهذا تم إنجازه بتفاهمات روسية إيرانية تركية سورية أميركية عربية، بل الهم الأكبر هو إيجاد أرضية مشتركة بين المصالح الدولية داخل أو خارج حدود سورية الجغرافية والسياسية، تتيح لهم الخروج من تورطهم من دون إراقة ماء الوجه، متكئين على الحنكة الروسية، متحفظين عن الحنكتين الإيرانية والتركية، وعيونهم على خفض التصعيد، لملء الفراغات في الخريطة المرسومة المحتجبة.
كلما عقدت جولة جديدة من مفاوضات جنيف تعقبها جولة جديدة من مفاوضات آستانة وبالعكس أيضاً، الأولى لا يصدر عنها سوى تفاؤل المبعوث الدولي (حتى تفاؤله لم يظهر في نهاية الجولة الثامنة) والثانية ينتج عنها خفض التصعيد ميدانياً بقرار شبه سياسي يبرم مع أمراء القتال، وليس مع أمراء التفاوض من المعارضة السياسية الخارجية، ما يؤدي للتهدئة ميدانياً والتصعيد سياسياً. وبتعدد الإحالات والتفاهمات من آستانة إلى جنيف وبالعكس، نجح الحل الميداني بخفض التصعيد، أما الحل السياسي التفاوضي المدعوم من حيث الشكل عربيا وإقليمياً ودولياً، فلم يوضع حتى الآن قيد تفاوض فعّال بين النظام ومعارضيه، لأن الأجواء الدولية المحيطة به لا تزال ملبدة بالغيوم. وتكفي السوريين التهدئة التي لا يعكّر صفوها سوى بعض الشوارد الداعشية ومناطقها، تتأهب للانخراط في اتفاقات تهدئة ستبرم في اجتماع آستانة خلال اليومين القادمين؟
كان يُتوقع أن تتحول الجولة الثامنة في جنيف إلى حلبة مصارعة تفاوضية بين الوفدين، كنتيجة طبيعية لهذا الحراك الإقليمي والدولي ورسائل واشنطن الإعلامية الضاغطة، وعُلُو مستوى ردود الفعل تجاهها من قمة الحلف الثلاثي في سوتشي، إلى لقاءات أردوغان وبوتين وتنقلاتهما من عاصمة إلى أخرى، وإصرار واشنطن بتصريحات الترضية على الحل السياسي في مفاوضات جنيف حصراً، ومع ذلك بقيت جولة جنيف الثامنة كسابقاتها، لم تشهد أي اختراق أو صراع تفاوضي، وهذا متوقع طالما أن لافروف يشيح بوجهه عنها منذ أولى جولاتها حتى الآن ويتقن اللعب حتى بخطوطها الأميركية التي لا يزال تيلرسون يقرأ تأثيراتها الدولية ليس على أصدقائه وحلفائه فحسب، بل على مصالح واشنطن لدى هؤلاء الأصدقاء والحلفاء؟
المهم بالنسبة إلى موسكو وحلفها الثلاثي، والمقلق المضني للمبعوث الدولي، أن مؤتمر آستانة وُضع مجدداً قيد التداول لتعميم خفض التصعيد على كامل التراب السوري تقريباً، وسد الثغرات الميدانية التي تعكر صفو التهدئة في بعض المواقع، لكن نتائج آستانة الثامنة يمكن أن تُجيَّر إلى سوتشي بدلاً من جنيف، إلى الحوار السوري- السوري الذي تعمل عليه موسكو برضى ودعم حليفتيها طهران وأنقرة، وربما واشنطن بطريقتها في المناورة والمراوغة بحثاً عن مصالحها في هكذا حوار تحضره (1400) شخصية سورية سياسية أو ثقافية أو عسكرية أو نقابية أو عشائرية أو حزبية أو مستقلة من رجال الأعمال والمجتمع المدني.
بلغة الواقعية السياسية التي تسعى موسكو إلى تعويمها في معالجة معضلة الحل السياسي يُفترض بمؤتمر سوتشي أن يكون أكثر تمثيلاً لأطياف المجتمع السوري إذا شارك المجتمع الدولي باختيار أعضائه، وشاركت فيه أطياف المعارضة الخارجية، لكن «إذا» لا يأمن النظام جانبها، لذلك يحاول أن ينفرد مع حليفتيه موسكو وطهران باختيار أعضائه الذين يتأهبون بكامل أناقتهم الشخصية والسياسية للمشاركة فيه، وتسعى موسكو لضم الأكراد إليه تقرُّباً منهم، وإرضاءً لواشنطن، وليس على حساب تحالفها مع أنقرة. وفي كل الأحوال يصعب تمريره بديلاً أو رديفاً لمؤتمر جنيف، مهما اندفعت روسيا في استغلال وعود واشنطن الخُلَّبية لأصدقائها، واكتفائها بتصعيد خطابها الإعلامي ضد إيران.
على الرغم مما رشح من خلاف بين دي ميستورا ووفدي التفاوض، فإن مفاوضات جنيف المتعثّرة لن تغيب كلياً عن المشهد الأممي، وقد تعود إلى التداول كلما شطحت الثنائية القطبية في المساومات السياسية بينها، فمشكلات الإرهاب ولاّدة وهي من منتجات النزاع التي يُخشى من العودة لاستثمارها في كل كبيرة وصغيرة، لكن وقائع جولات جنيف جميعها تجعل من المؤتمر إمّا خطيئة دولية أو خديعة سياسية لتغطية حرب المصادرة لمنتجات النزاع بين الثنائية القطبية أولاً، وامتداداتها العربية والإقليمية تالياً، لذلك قد لا يُستغنى عنه بصيغته الحالية في ظل التعقيدات الدولية المتفاقمة.
أمّا في الداخل السوري فقراءة ما بين سطور خفض التصعيد غير الكردية توحي بتوجُّه روسي إقليمي لمأسسة نتائج النزاع من خلال أمراء الميدان بتحويلهم إلى أمراء سياسة على اختلاف تكويناتهم المذهبية والأيديولوجية والعشائرية، ربما بتفاهمات سياسية خارجية، ويُفترض بهم الاستعداد لمنتجع سوتشي متأبطين رايات التهدئة.
* كاتب سوري