فترة حكم ظاهر العمر هي العصر الذهبي لفلسطين في العصر الحديث
الناصرة – «القدس العربي»: يوضح المؤرخ المختص في المجتمع الفلسطيني البروفيسور محمود يزبك أن فلسطين شهدت عصرها الذهبي في العصر الحديث في القرن الثامن عشر إبان فترة حكم ظاهر العمر الزيداني.
ويشير في كتيب جديد بعنوان « الشيخ ظاهر العمر الزيداني، العصر الذهبي لفلسطين في العصر الحديث» لتميزه عن بقية حكامها بتكريسه الكثير من طاقاته وثروته وحياته لبنائها وإعمار مدنها وتطوير سكانها.
ويسلط الكتيب الصادر عن مطبعة النصر/ حجاوي في نابلس هذا الأسبوع، الضوء على مسيرة بناء ظاهر العمر (1750-1710) وحكمه ودولته التي يعتبرها باحثون آخرون أول دولة فلسطينية.
ويستنتج من الدراسة المعتمدة على أبحاث أكاديمية وعلى مصادر أولية لرحالة أجانب زاروا فلسطين في تلك الفترة أن الزيداني أنشأ دولة من القطن الذي شكّل عمادها الاقتصادي، وما لبثت أن تحولت الإمارة لدولة تنتشر على أرجاء واسعة من البلاد عاصمتها مدينة عكا، لكن ليس على حساب شقيقاتها طبريا وحيفا والناصرة. وأصل المسيرة مرتبط بظهور عائلة الزيداني في نهاية القرن السابع عشر في شمال فلسطين قادمة من الحجاز وسرعان ما صار أبناؤها ملتزمين وجباة ضرائب وزعماء محليين في نطاق الدولة العثمانية.
وبعد التمركز في طبريا انتقلت العائلة لبلدة عرابة البطوف في الجليل الأسفل. وخلال مدة قصيرة اعترفت اسطنبول بظاهر العمر حاكما لعكا والجليل.
ويتفق يزبك المحاضر في جامعة حيفا مع باحثين آخرين على أنه اعتمد في نمو قوته على تشابك اقتصاد الجليل بالاقتصاد العالمي وازدهار التصدير الزراعي خاصة القطن لأسواق أوروبا وفرنسا على وجه الخصوص، حيث لعبت صناعة النسيج وقتها دورا مهما في اقتصادها. وحتى ظهور ظاهر العمر مارس تجار القطن الفرنسيون في فلسطين احتكارا بشعا على حساب الفلاحين. ويؤكد يزبك أن ظاهر العمر أدرك مبكرا ضرورة القيام بخطوات مدروسة ليصبح حاكما لشمال فلسطين وصاحب الاحتكار الوحيد لتجارة القطن الذي تضاعف الطلب عليه في أوروبا نتيجة ازدهار صناعات النسيج.
من عرابة إلى طبريا
في أربعينيات القرن الثامن عشر قرر ظاهر العمر الانتقال من الجليل إلى عكا الساحلية واتخاذها مقرا لحكمه مستفيدا من أكوام الحجارة الكثيرة في أرجائها فشيد الخانات والمنشآت والأسوار والميناء.
ويحق ليزبك الإشادة بظاهر العمر وبإنفاقه الكثير من ثروته من أجل بناء دولته بخلاف حكام آخرين كثر استثمروا السياسة ووصلوا للحكم ليأخذوا من دون عطاء. وعن ذلك يقول «أصبح ظاهر العمر الحاكم الأكثر ثراء في فلسطين والأهم من هذا أن هذا الثراء صبّ مباشرة في مصلحة فلسطين التي ازدهرت في فترة حكمه التي دامت نحو نصف قرن.
ويتوقف الباحث بالتفصيل عند الكيفية التي أنفق من يستحق لقب المؤسس الأول للدولة الفلسطينية، على تعمير المدن الفلسطينية في الجليل وإنشاء القلاع وتشبيك المناطق الريفية بالمراكز المدينية مما أفضى لنهضة اقتصادية – اجتماعية بعدما حول اقتصاد بلاده من استهلاكي لمنتج وتسويقي.
وعزز ظاهر العمر علاقاته التجارية مع دمشق مما وسع علاقاته الاجتماعية. ويروي الكاتب هنا أن هذه العلاقات أفضت لزواجه من ابنة أحد تجار الشام. ويتنبه يزبك إلى أسرار نجاح مشروع ظاهر العمر ومنها تسخير مقدراته الاقتصادية المتنامية لطموحات سياسية كبيرة.
وبلدة عرابة في الجليل التي تحولت إلى مدينة قبل شهور لم تعد وقتها تتسع لطموحات ظاهر العمر في ثلاثينيات القرن الثامن عشر فبدأ يتوسع حتى اتخذ من طبريا مقرا لحكمه وجعل سهولها المحيطة وبحيرتها تابعة له. وفي طبريا نجح بمثابرته وشجاعته بتعميرها وتحويلها من قرية لمدينة عامرة وآمنة مستفيدا من تحالفاته مع عشائر البدو في المنطقة خاصة قبيلة الصقر حتى استعصت على والي الشام الذي هاجمها وفشل باحتلالها كما يشهد الرحالة البريطاني ريتشارد بوكيك الذي زارها عام 1737 .
ويكشف يزبك استنادا لمصادر متنوعة أن قوة ظاهر العمر لم تتجاوز الألف مقاتل، منبها أن هذا عدد لا يستهان به وقتذاك. وبعد ضم طبريا واتخاذها مقرا له شمل أيضا مرج بن عامر أكبر وأخصب سهل في فلسطين، وما لبث أن اختار الناصرة واحدة من مقراته كونها مشرفة على هذا المرج الغني. ولا يتوقف يزبك كثيرا عند استقطاب ظاهر العمر ليهود إزمير التركية وإعفائهم من الضرائب في السنوات الأولى مكتفيا بإشارة عابرة لذلك، علما أنه حتى تلك الفترة لم يسكن اليهود في طبريا.
الناصرة
وعن ذلك يقول « كانت الناصرة خطوة ظاهر العمر التالية عام 1735 وفيها أسكن زوجته الدمشقية الأولى التي شعرت بها بسعادة أكبر مما كانت عليه حين أسكنها قبل في قرية عرابة. وبفضل الأمن والأمان والاستقرار ازدهرت الناصرة وزاد عدد سكانها وشهدت بناء أربع كنائس على نفقته مما زادها جاذبية.
عكا
وفعل ظاهر العمر ذلك لكن عينه كانت كل الوقت على عكا المدينة الأهم في فلسطين في تلك الفترة بفضل مينائها وقلاعها فاستغل موت حاكم والي دمشق خصمه الأعند سليمان باشا العظم عام 1743 فأخذ عكا التابعة لها دون عناء.
ويروي الباحث كيف قام ظاهر العمر بإعادة بناء وإنماء عكا بسرعة على غرار ما فعله من قبل في طبريا. وفي المدينة التي ما زالت آثاره العمرانية قائمة حتى اليوم شيد الزيداني أسوارها وحصونها وعدة خانات ومقرا لحكمه وكما في الناصرة بنى كنائس في عكا التي زاد عددها حتى 20 ألف نسمة لتصبح ثالث مدينة في فلسطين بعد القدس ويافا.
حيفا
حيفا التي تكبر عكا اليوم بأضعاف كثيرة وتعتبر بوابة البلاد البحرية لم تكن وقتها سوى قرية صيادين صغيرة جدا ومقرا لقراصنة مالطا، بيد أن ظاهر العمر بنى مركزا مدنيا في المنطقة الجنوبية منها وأنشأ سورا حولها وبنى سوقا وجامعا وأسماها «العمارة الجديدة». وبسبب ضحالة مياه ميناء عكا صارت السفن الكبرى ترسو في ميناء حيفا مستفيدة من الأمان بعد مكافحته للقراصنة.
وهكذا لم يهتم ظاهر العمر بالمناطق الريفية في فلسطين بل أسس مراكز مدينية ورافق عملية تمدده وتوسيع رقعة سيطرته في الجليل كذلك تحول اقتصادي مهم بعد تحييده للتجار الفرنسيين واحتكر الزراعة خاصة القطن. وبادر ظاهر العمر لبناء سلسلة قلاع وأبراج في الطرقات والمدن وبعضها ما زال قائما كقلاع جدين، ودير حنا، وعكا وصفد وشفاعمرو وغيرها مما ساهم في إشاعة الأمن لكن يزبك يشدد كباحثين آخرين على دور البناء الاجتماعي وصيانة نسيجه بإشاعة التسامح والاحترام بين مختلف مكونات المجتمع في البلاد.
خلاصة
ويخلص الباحث الى القول إن ظاهر العمر كان متفردا خلال حكمه الطويل وتميز بضخ ثروته في اقتصاد بلاده وحول بلداتها لمدن مهمة كما ذكر بخلاف حكام آخرين. ويرى أن أهمية ظاهر العمر في التاريخ الفلسطيني تعود لهذا السبب، واصفا إياه بملك الجليل وحكمه بفترة العصر الذهبي لفلسطين لأنه واضع نواة مجتمعها المدني وتمكينه والمحافظة على تعدديته.