خُرافة القرية اليمنية وغرائبية الواقعية في «وادي الضجوج»
[caption align="aligncenter"]خُرافة القرية اليمنية وغرائبية الواقعية في «وادي الضجوج»[/caption]صنعاء «القدس العربي» من أحمد الأغبري: كشفت قصص مجموعة «وادي الضجوج» الصادرة، حديثا، للروائي وجدي الأهدل (1973)، عن ملامح جديدة في علاقة الكاتب بسرد الغرائبية السحرية للواقع اليمني؛ ومهارته في التعبير عن مواقفه، من الحقيقة الغائبة في قراءة المشكلة الاجتماعية، عبر محمولات بنائية وخطابية حافظت على ذلك الخيط الرفيع غير المرئي، بين الواقع والخيال؛ لتنفتح النصوص على قراءات لا حدود لدلالاتها. من نافل القول إن وجدي، يُمثّل، في هذا النسق السردي يمنيا، امتدادا لأجيال سبقته في كتابة «الواقعية السحرية». وعلى ما مثلته أسماء كبيرة في أجيال سابقة كعبدالكريم الرازحي مثلا، الذي تتمتع سرديته السحرية بعلو كعبها فنيا ضمن جيله، إلا أنه يمكن القول، أيضا، إن وجدي يمثل اتجاها قد يختلف ويتميز كثيرا عمَن سبقه، بقدر يشكل إضافة نوعية. وعلى الرغم من التقائه والرازحي على صعيد هذه المجموعة مثلا في توظيف تراث الفلكلور الحكائي العجائبي للقرية اليمنية، إلا أن وجدي اختط له منذ البداية مضماره وأسلوبه وعلاقته المختلفة في التعامل مع مشكلات واقعه وتراثه الثقافي. وأصدر الأهدل ست مجاميع قصصية (1997 2017) وأربع روايات وثلاثة كُتب مسرحية وسينمائية (2002 2012) وغيرها. تتجذر بدايات أدب الواقعية السحرية الغرائبية عربيا؛ وإن تجلت عبقريته حديثا في أدب أمريكا اللاتينية؛ إلا أن تلك العبقرية استفادت كثيرا من تراث السرد العربي القديم، الذي تحضر فيه الواقعية السحرية بوضوح، مثل كتاب»ألف ليلة وليلة» وغيره، بما في ذلك التراث الشفهي الذي ما زال يرويه الأجداد للأحفاد، ممزوجا بخرافة تمثل ركنا أصيلا في تراث هذا الحكي الشفهي في قُرى البلدان العربية بما في ذلك اليمن. وهنا لا ينكر وجدي الأهدل تأثره بحكايات الخرافة الشعبية بمستوى يعدّها من أهم مصادر استلهام قصص هذه المجموعة؛ وهو ما أجاد الكاتب الاستفادة من تراثها كثيرا وإعادة توظيفه بشكل أعاد اكتشاف بعض طاقات هذا التراث، كما إن هذا التراث منح الكاتب في المقابل قدرة على أن يقول من خلاله ما يتجاوز به الوقوع في أفخاخ رقيب النظام الثقافي السائد، منتقدا قُبح الواقع، عبر نصوص مفتوحة القراءة والتأويل؛ وهو ما صار يُجيده الأهدل في علاقته بالقص عموما، لاسيما بعدما كان له عقب صدور روايته الأولى» قوارب جبلية» 2002، التي أثارت، حينها، الكثير من الجدل. استطاع وجدي، في قصص المجموعة الجديدة، أن يكون بمستوى ما هو جوهري لما أراد تناوله ومعالجته موضوعيا وفنيا؛ فجاء البناء متناسبا مع خصوصية الحكايات ومضامينها في علاقتها بوعي البيئة المحلية وضميرها وتراثها، بل كان متميزا في تمكينها من تلك الطاقات الروحية، التي عالج غرائبيتها بطريقة لا يستنكرها القارئ، بقدر ما يتفاعل ويندمج مع عوالمها؛ ذلك إن الكاتب لم يقطع حبلها السري بالوجدان الشعبي، بمعنى آخر إنه وعلى الرغم من الغرائبية العالية، أحيانا، في السردية الواقعية السحرية لبعض القصص، إلا أن القارئ لا يصل إلى ما يضطره للبحث عن تفسير؛ وهذا يدلل على مدى إدراك الكاتب لخصوصية هذا السرد، الذي لا يتضاد مع الواقع باشتغاله على اللاواقع، بل يتحاور معه، ويحاول فهم تناقضاته، بما قد يصل بالقارئ الحاذق لفهم بعض حكاية مشكلة واقعه. يمثل القارئ جزءا من الحقيقة الاجتماعية للواقع الذي تتعامل معه هذه القصص. ويختلف مستوى ونوعية الاشتغال على هذه الحقيقة من كاتبٍ لآخر، تبعا لمستوى ونوعية وعي الكاتب بهذه الحقيقة من جهة، ومن جهة ثانية تبعا لمستوى نوعية علاقة الكاتب بهذا النوع من القص الذي لا يهتم بنقل الواقع، وإنما بفك بعض أسراره عبر بث الروح في الأشياء المحيطة في علاقتها باللاواقع فنقرأها جزءا من حيواتنا؛ وهنا لا يضطر الكاتب لتبرير ما يحدث، مثلما لا يجد القارئ حاجة لفهم منطق ما يجري، إلا أن الكاتب يحتاج هنا، وفق كثير من النقاد، لامتلاك حساسية عالية بأحاسيسه تجاه ما يرويه بما يتيح له التنبؤ بما هو غير مُدرك وموضعته واقعيا، بما يجعله قابلا للقراءة، باعتباره جزءا من واقعنا؛ فيتجلى سحر السرد مُدهشا وممتعا ومقنعا وفاتحا لفهم الحقيقة أيضا. الخلفية الثقافية للحكاية من أبرز ملامح الخطاب في قصص هذه المجموعة، تبرز اللغة منسجمة كثيرا حد التماهي مع الخلفية الثقافية لبيئة كل حكاية؛ بل أن الكاتب كان واعيا جدا بقاموسه الخاص ومستويات استخدامه، بما يتناسب مع بيئة وثقافة كل قصة، مع حرص لافت على التجديد وتجاوز المستهلك والسائد، بدون أن يتجاوز أجواء حكاياته، كما لا يقلل من جمال علاقته باللغة في هذه القصص ما قد نجده من كلمة هنا أو هناك خارج ما أشرنا إليه من تماه ثقافي، كاستخدامه، مثلا، كلمة (الشرطة) في تهديد (نويرة) للصائغ في قصة «عسلان ونبات»؛ وهي قصة يعود زمنها تقريبا لأربعينيات القرن الماضي في شمال اليمن خلال عهد حكم الإمام يحيى حميد الدين؛ وخلال تلك الفترة لم تكن هذه الكلمة متداولة في لغة المجتمع القروي الجبلي في شمال البلاد، الخ. تماهي اللغة بالخلفية الثقافية للحكاية سمة تضاف لتميز الكاتب في مزج الحكاية الشعبية بأدوات وقوالب القص الحديث، تعبيرا عن ضمير الوعي الجمعي التقليدي، الذي ربما يراه الكاتب أساسا لضمير الوعي الجمعي الراهن، بما فيه من اختلالات تعيق تطور المجتمع وتُضاعف من معاناته. جغرافيا كانت القرية هي المكان الذي مَسرَح عليه الكاتب قصص المجموعة، فيما تنوعت مراحل التاريخ التي استحضر فيها حكاياته؛ إلا أن ثمة ما حضر في كل القصص ويكاد يتكرر توظيفه في معظمها؛ وهما المرأة والجبل؛ فهذا الثنائي اشتغل عليهما الكاتب بتكثيف ربما إدراكا منه لما تعانيه المرأة في الواقع، وما يمثله الجبل بما فيه من قوى طبيعية يمكن توظفيها بما يعزز من استخدامات (الفانتازيا) بجذورها الفلكلورية في فهم ثقافة (واقع) المجتمع في اليمن. صدرت المجموعة، مؤخرا، عن الأمانة العامة لجائزة رئيس الجمهورية للشباب (تغير اسمها إلى جائزة الدولة للشباب)، وضمن مشروع رعاية الفائزين في سنوات ماضية. وكان الكاتب فاز بالجائزة في مجال القصة عام 1999.
]]>