Le Champo

Le Champo

Le Champo

في شارع بارد، تسير فتاة غريبة. فتاة وحيدة بمعطفها ووشاحها، وبقبّعتها التي يتلاعب بها الهواء بين فينة وأخرى. مشهد أبوكاليبسيّ يتكرّر في أمسيات تشرين الحزينة بشكل روتينيّ. عندما “الرصيف بحيرة والشارع غريب”، تأتي “هاك” البنت، تخرج من أغنية فيروز وتسير منحنية الظهر في شوارع باريس لتشاهد فيلم سينمائيا. تشدّ حزام معطفها، الغريب مثلها، وتخرج من بيتها العتيق، وبها توق إلى الأسود والأبيض. تخرج من بيتها وتذهب إلى Le Champo.
لل Le Champo قصّة. لصالات السينما قصصها في باريس، كما لكلّ شيء فيها ذكرى ووجه وحكاية.
السينما في باريس وجهان لعملتين مختلفتين. هناك أوّلاً الUGC وال MK2طبعًا، وما يشبههما من صالات السينما التجاريّة المتعارف عليها، التي تغصّ بالمئات والمئات من العيون النهمة إلى الأضواء. إنّما هناك أيضًا مسارح صغيرة مختبئة في الزوايا والأزقّة. صالات دافئة تخبّئ في جوفها أفلام ماريلين مونرو وبازوليني وعمالقة الشاشة الكبيرة. صالات صغيرة مخمليّة تأتي بأفلامها من زمن ذهبيّ، وتحمل روّادها إلى الشرق الأقصى، إلى أميركا اللاتينيّة، إلى أوروبّا القرن السابع عشر، إلى ميديا والميثولوجيا الإغريقيّة. وجوه بالأبيض والأسود تحمل الجالسين على مقاعدهم إلى أماكن بعيدة لم يعلموا أنّهم كانوا يحلمون بها.
صالات بعيدة عن ضوضاء باريس السياحة، يحترف محبّو السينما إيجادها والاختباء في كنباتها كفئران بيضاء صغيرة تخشى البرد وتحشر نفسها في ثغور الجدران الرقيقة.
صالات لذيذة تشبه بطيبتها وخمولها دفء سرير طفل حديث الولادة لا يريد شيئًا من هذه الدنيا سوى صدر والدته. Le Champo هي صالة المخرج والممثّل والسينمائيّ الفرنسيّ الغنيّ عن التعريف جاك تاتي. هي صنع ذاك السيّد هولو بقبّعته وغليونه ونظّارتيه السوداوين، ذاك الرجل الفرنسيّ، الشارلي شابلني الباريسيّ، Monsieur Hulot بأخباره وطرفه وسذاجته وعجزه عن التحكّم بما يدور حوله.
الشتاء في باريس مليء بالحنين. بالذكريات. بالأحلام والأساطير. لا تمكن مواجهته. لا يمكن عزله. لا يمكن تجاهله. كأنّه وشاح يخرج من أحد أفلام فرنسوا تروفو ويترك خلفه عطر امرأة عاشقة. الشتاء في باريس يعجّ وقعه بقبلات العشّاق، بأيديهم، بعناقاتهم، بهمساتهم، بشجاراتهم الخجول. كأنّه عاشق غريب يقترب من معشوقته ثمّ يبعدها لسبب يجهله. يحبّها ويتجنّبها للعلّة نفسها. الشتاء في باريس كائن تملأه السكينة كما يملأه الاضطراب.
الرصيف صامت. هادئ. يتأمّل. يتذكّر. يستعيد بالأسود والأبيض وجوه أولئك الذين مرّوا به وتركوا خلفهم رنين ضحكاتهم.
تدخل فتاة فيروز بهدوء وبما يشبه الخشوع إلى معقل السيّد هولو وتحتمي به من شتاء باريس. تجلس في مكانها. تراقب الوجوه والعيون والأيدي الدافئة وتنتظر بدء الفيلم. تنطفئ الأضواء. يسود الصمت. تغمض عينيها. تشعر بالدفء ينسلّ إلى جوفها. رائحة الأسود والأبيض تلاعب بشرتها. تشعر بعجلة الزمن تعود بها إلى الوراء. تفتح عينيها. ترى الدنيا جميلة.

m2pack.biz