آصرة مع الأدب اليمني
من بين الصور التي يحتشد بها الواقع اليمني اليوم، يطل علينا المشهد الأدبي، لاسيما الجانب الروائي منه، ليثّبت في أذهاننا أن اليمن، وبرغم المخاضات العسيرة التي يعيشها، والظروف الصعبة الملمة به، إلا أن أوردته موصولة بالحياة، والروح فيه معافاة غير متصدعة. والحال كذلك، فإن مقولتان اثنتان بأقل تقدير سترشحان من هذا الكلام: الأولى هي أن الأدب الحديث وجد بيئة مواتية في اليمن، فتجذر ونما وتفرع، والثانية هي أن الأديب اليمني يعيش في مناخ مكشوف على آفاق الإبداع ومغامراته.
اليمن، حاله كحال الكثير من البلدان النامية، ترهق كاهله ملفات اقتصادية وسياسية واجتماعية عدة، ما يقف حائلا دون الاستجابة لتطلعات أبنائه. مع ذلك، وبرغم الصورة الكالحة التي توحي به تلك الملفات، إلا أنها، وفي نهاية المطاف، ملفات قابلة للتبدل حالما تتغير الأحوال، حيث أنها (الملفات) مرتبطة بظروف زمنية ومرتهنة بعوامل متغيرة، محلية كانت أو عالمية، وبالتالي فهي عوامل ثانوية وليست جوهرية.
لست بصدد طرح رؤية استراتيجية لليمن وإعطاء صورة مستقبلية لهذا البلد العميق في الوجدان البشري، فلتلك الرؤى أصحابها، ولكني أردت الاقتراب – ولو قليلا – من جوهرة يمانية أصيلة اسمها الأدب اليمني الحديث.
أعود بالذاكرة إلى منتصف التسعينات حين وقع بين يدي أول كتاب من الأدب اليمني الحديث. لا أعرف، فلربما كنت قد قرأت متفرقات من الأدب اليمني قبل ذلك التاريخ، ولكن وابتداء من مجموعة قصصية حملت عنوان ‘البقرة البيضاء’ للكاتب اليمني عبد الكريم الرازحي، فإن أمرا جوهريا استقر في الوجدان تجاه اليمن.
لا يرتكز حديثي هنا على مجموعة ‘البقرة البيضاء’، ولن أذكرها إلا بصفتها مثالا على الأدب القادر على جعل المرء يقيم آصرة فريدة مع بلد ما بمجرد قراءة كتاب بديع من أدبه أو رؤيته لشيء أصيل من فنه.
إن الأدب (وهو عنصر أصيل في الروح المجتمعي، يتنسم الهواء من حياة الوطن ويسقي الأوراد من غدرانه، وهو مظهر يختزل طبيعة ومزاج اللحظة الزمنية المعاشة للشعب) له المقدرة على منحنا صورة عميقة وصافية للحياة الحقى في هذا الوطن أو ذاك. وعلى الطرف الآخر من المعادلة يقف الأديب (وهو مواطن أفرزته تربة الوطن وأخذ بسْمتهِ) الذي له المقدرة، بل ومقّدرٌ عليه، تكريس الصورة الحقى لهذا البلد أو ذاك. وفي هذه المعادلة يبدو الوطن هو الحلقة الأضعف وهو الرقعة الهشة بين طرفي المعادلة، ولكن وبوجود ذاك الأدب الرفيع وهذا الأديب العميق، تنتظم المعادلة ويصبح للوطن معنى وقوام وتفاصيل كبيرة… ويصبح له منافحون كبار. في حين لا رفاه حقيقي لبلد لا ينتج أدبا عميقا، وأدباؤه هائمون على وجوههم في بيداء عقيمة. ومهما تمسح هذا الوطن بوشاح المدنية والحداثة، إلا أن روحه ذابلة دائما وذؤابته كابية.
إن المجموعة القصصية التي أومأت لي في منتصف التسعينات إلى يمن آخر، يمن يطوي في دخيلته حداثة طبيعية، تلك الحداثة الواقعة بين الجبال والأشجار والوديان، إنما هي أدب يعبّر عن وطن محفوف بالناس والطبيعة والحياة، أدب له طرائقه بقدر ما للحياة من طرق وهو أدب أصيل حيال وطن جزيل.
إن أكثر ما ترك انطباعا في مجموعة الرازحي القصصية (ويتجاوب مع فحوى هذا المقال) هو اللغة. وأكثر ما تمتعت به تلك اللغة وخلع عليها سمة الأدب هو الحرية. فلا أدب بلا حرية.
وإن قلنا إن اللغة جسد النص، فالحرية التي تجري في دماء الكاتب وتغتسل بها أفكاره، تصيب النص بعدواها. إنها تتسرب من الكاتب إلى النص فتضئ جوانحه بالحياة.
إنها لغة حرة. فهي إذا لغة حية. تتمدد بسخاء على التراث وثقافته، تتحاور مع مفرداته وتسير في مسالكه العتيقة، دون ورع من الضياع في أقبية الماضي والغرق في مياهه الآسنة. فالكاتب ينبثق من بؤرة الحاضر، وتعاطيه مع التراث، بعيده وقريبه، يرضخ لفنيات الحاضر ويتحكم به مزاج الكتابة الحديثة.
قادتني قصص البقرة البيضاء إلى رواية الرهينة للأديب زيد مطيع دماج لتزداد معها الآثار اليمنية الحديثة وتقوى آصرة الأدب مع اليمن، ومنذ ذلك الحين توالت أسماء الأدباء وتنوعت عناوين القصص والروايات الآتية من اليمن، فتشكل لدينا رف بديع ومتجدد في مكتبة الأدب العربي الحديث.
كاتب عماني
a.alrahbi@ymail.com