«أسفل البحيرة الفضية» للأمريكي ديفيد ميتشل الواقعي والفانتازي في فيلم تحقيقي

«أسفل البحيرة الفضية» للأمريكي ديفيد ميتشل.. الواقعي والفانتازي في فيلم تحقيقي

«أسفل البحيرة الفضية» للأمريكي ديفيد ميتشل.. الواقعي والفانتازي في فيلم تحقيقي

الشروط التي يضع الفيلمُ المُشاهدَ فيها تفرض على الأخير الزاوية التي يمكن له أن يتلقى الفيلم ويدركه من خلالها، فيقدم الفيلم نفسه كواقعي يجري بأحداث يمكن لها أن تكون حقيقية، قد حصلت أو أن احتمال حصولها واقعي، يمكن هنا للمُشاهد أن يضع نفسه مكان البطل في الفيلم، أو أن الظروف التي وجد البطل نفسه فيها يمكن أن تُنسخ في ذهن المُشاهد إلى حياته الواقعية التي سيعود إليها إثر الخروج من الصالة.
هنا، في هذا الفيلم الغرائبي السيريالي، نجد خلاف ذلك، فالبطل هنا، من ربع الساعة الأول، يتهيأ لغرابة تحصل معه – سنجاب يسقط من شجرة لتخرج أحشاؤه بدمها فور ارتطامه بالأرض أمامه – ولمصادفات تحمله من عالمه الواقعي بشكله الظاهري في بدايات الفيلم، في يومياته وعلاقاته، تحصل معه وتحمله تدريجيا إلى عالم خيالي فانتازي، إنما بدون مخلوقات فانتازية.
الغرائبية هنا ليست أولا في الشخصيات، إنما في الظروف والأحداث، في التفصيلية منها غير المبررة عقليا، وكذلك في الخط الرئيسي للحكاية بمجملها، وإن كانت بزمان ومكان واضحين: مدينة لوس أنجليس، في زمن ليس بعيد عنا تدل عليه لعبة الفيديو «نانتندو» وجهاز VHS لتشغيل الأشرطة.
ولكي يزيد الفيلم من عناصره الغرائبية يجعل من قصته الأساسية حبكة فيلم «نوار». فيلم تحقيقي بدون بوليس، إذ تعتمد الحكاية على بحث البطل، واسمه سام، على جارته الجديدة التي اختفت فجأة، وأثناء البحث الواقعي نوعا ما – فهنالك أدلة مادية على وجودها – نشاهد أصدقاء وحفلات وأحداث تتخللها مصادفات غريبة.
أثناء هذا التطور في السياق الواقعي، تتتالى أحداث تفصيلية غير واقعية بالمرة، فانتازية تحمل المُشاهد إلى عالم لا يسمح له بتوقع ما يمكن أن يحصل، لأن الظروف هذه تخضع لشروط سيريالية لا يمكن تطبيقها على المُشاهد في حياته الواقعية، وهذا ما يجعل الفيلم عصيا على الفهم المنطقي، أو الربط الاستنتاجي بين أحداثه. وهذا ربما ما جعله ينال التقييمات النقدية من أعلاها إلى أدناها.
إذن، في البداية سنجد العاطل عن العمل، سام، جالسا في بلكون شقته يراقب جاراته، تخرج إحداهن إلى حوض السباحة المقابل، يراقبها بالمنظار، تراه، يزورها مساء، يكاد يمارس الحب معها، ولكن يدخل لبيتها أصدقاء غرباء فيخرج. في اليوم التالي يجد أنها قد غادرت شقتها، يتسلل إلى الشقة ويجد صندوقا فيه أشياء، وصورة لجارته يأخذها ثم يختبئ حين يرى امرأة تدخل، تحمل الامرأة الصندوق وتخرج. هنا يبدأ مشوار بحثه الفانتازي عن هذه الفتاة التي سيُرجح بين وقت وآخر أنها لم تكن سوى حلم أو شخصية من نسج خياله، وذلك لسيريالية الأدلة التي تقود إليها، إنما دخول عناصر واقعية/مادية تشير لجارته، تلفزيون وصحف وغيرها، يرجح أن ما يحصل هو واقعي تماما إنما في عالم هو نفسه «غير واقعي».
الفيلم الذي شارك في مهرجان كان السينمائي مؤخرا، والمعروض حاليا في الصالات الفرنسية، وقريبا سيتوفر عبر موقع «موبي» في المملكة المتحدة، وصالات السينما في العالم، هو كتابة وإخراج الأمريكي ديفيد روبرت ميتشل الذي كتب وأخرج كذلك قبل أربعة أعوام فيلما قد لا يقل غرابة هو «It Follows». وفيلمه هذا، هو فيلمه الروائي الطويل الثالث، ما يشير إلى أن المخرج رسم لنفسه أسلوبا سينمائيا خاصا يعتمد على الغرابة التي تذكرنا بين مشهد وآخر بديفيد لينش وغرائبية الحكايات والمَشاهد والشخصيات في أفلامه التي لا تستلزم الإدراك بالضرورة، كي يقول مُشاهدها أنه شاهد الفيلم واستمتع به.
لكن لهذه الأسباب ذاتها، الغرائبية والتتالي غير المبرر للأحداث، يمكن أن يكون الفيلم لدى البعض مضيعة للوقت، خاصة أن الغرائبية هنا في الربط بين الأحداث التفصيلية كانت في مواقع عدة سطحية، استُسهل بناؤها، فكان الربط غير مُحكم، وكذلك المفاتيح التي دلت البطل ليحل لغزا هنا أو هناك – بعضها يعتمد على ألعاب أطفال أو تفكيك شيفرات أغنية بشكل اعتباطي وأحيانا ساخر- أو ليتصرف على أساس حله لهذا اللغز أو ذاك – كأن يمسح بيده منحوتة هي رأس جيمس دين، ثم يذهب للانتظار أسفل منحوتة لنيوتن ليخرج له رجل آتٍ من حقبة سابقة – هذه كلها أتت اعتباطية إذ يمكن تبديلها أو الاستغناء عنها، بدون أن يتأثر الفيلم فعلا.
هذه التفصيلات الغريبة كلها، وغيرها، أعطت ما يحصل في الفيلم احتمالا بأن يكون سخرية من الحياة الفنية في هوليوود، خاصة أن ذلك تبين أخيرا من خلال لقاء البطل بأحدهم يحكي له كيف أنه – وهو مؤلف أغاني بوب- كون بأغانيه الحياة العامة واليومية والأذواق لأجيال.
للفيلم (Under the Silver Lake) احتمالات عدة في تفسيره، وهذه كانت وظيفة الغرائبية فيه، إذ لا يمكن تحديد هذا التفسير في إطار واحد لا يمكن أن يتسع لتفسيرات أخرى، فالغرائبية والفانتازية، وتحديدا كيفية عثوره/عدم عثوره على جارته، يؤكد ذلك الفضاء الواسع في فهم الفيلم وإدراكنا لما يحصل على الشاشة.
٭ كاتب فلسطيني سوريا
«أسفل البحيرة الفضية» للأمريكي ديفيد ميتشل: الواقعي والفانتازي في فيلم تحقيقي
سليم البيك

m2pack.biz