الأضحوكيات العربية
كلما اجتمع قوم في مجلس، وكانوا على مستوى واحد من الفطنة، بحثوا عن واحد من بينهم، يكون مختلفا عن الجميع يتخذونه موضوعا للضحك، أي «أضحوكة» ليتسلوا ويستمتعوا بالجلسة. والأضحوكة نوعان: نوعي فطري، يبرز في الأشخاص الذين يتميزون بطبع خاص ومختلف يميل إلى نوع من الهبل.
أما النوع الثاني فيبرز فيمن يتجاوز حد التذاكى، وفي تذاكيه تتبين منه كل آيات الغباء اللامحدود. تجمع الأضحوكة على «أضاحيك» في لسان العرب، وتعني: «كل ما يُضحك به»، أو «يُضحك منه»، حتى صار سخرية بين الناس. وتشترك «الضُّحكة» مع الأضحوكة في المعنى، وهي الموظفة في الدارجة المغربية بالفتح، حيث يقال عن أحدهم بأنه «ضَحكة».
تقول امرأة لأخرى في الحديث النسائي المغربي: افعلي كذا؟ فتجيبها الأخرى حين تكون ذات حساسية مفرطة حول ما يقال عنها: «آويلي؟ أتريدين أن يشدوا بي الحثيث»، والمراد (الحديث) أي أن تصير «ضَحكة»، أي موضوع أحاديث النساء. إن «الفعل» المفارق للمعتاد يتحول إلى «حدث»، لأنه «أحدث» شيئا جديدا يجعله قابلا لأن يتداول في «حديث». ومن هنا جاءت «الأحدوثة» لتعني الحدث المُحدَث المُحوَّل إلى حديث. وهو ما يعنيه المصريون بقولهم: «الحدوتة». تتعدد أنماط الأحاديث (جمع أحدوثة) ومتى كانت الأحدوثة مثيرة للضحك والسخرية صارت «أضحوكة».
ما يصلني من الوسائط الشعبية الجديدة عن سياسيينا وحكامنا ووعاظنا وفرقنا الدينية، يدفعني إلى الضحك المخنوق بالمرارة. فإذا بي وأنا أحاول سرقة ابتسامة من هذا الزمن الرديء أجدني أكاد أختنق من البكاء. فهل صرنا إلى هذا الحد أضحوكة العالم. تحدث العرب عن المضحكات المبكيات، وفي المثل المغربي: «كثرة الهم كتضحك» فكيف ينقلب الضحك باعتباره تعبيرا عن السعادة إلى تعبير عن التعاسة؟ تنقلب الأشياء إلى أضدادها حين يغيب التوازن في الحياة.
الأضحوكة، مثل الأسطورة والأعجوبة، تجمع على أضاحيك، وإذا كان تصنيف الأساطير عند الشعوب القديمة أدى إلى بروز علم الأساطير (الأسطوريات)، لا بد من بروز علم خاص بالأضاحيك نسميه «الأضحوكيات». قد تتخذ قبيلة، أو مجموعة من القبائل، قبيلة ما موضوعا للضحك، وتعتبر ما يأتي من أفراد هذه القبيلة «أضاحيك» باعتبار ذلك جزءا من الصراع معها. وما يسري على الجماعات يجري على الأفراد. يأتي التعبير عن تلك الأضاحيك باللغة ويأتي بالصورة ثابتة ومتحركة. ومن بين خصوصيات الوسائط الجماهيرية، منذ ظهورها، أن جعلت رسومات فن الكاريكاتير من بين أهم موادها، وطورت الوسائط الاجتماعية هذا الفن فصارت تقدمه بأشكال وصور لا حد لها. وما دمنا نهتم كثيرا بالأوائل في ثقافتنا العربية، لا بد لأي مؤرخ للأضحوكيات أو باحث سيتخصص فيها، أن يعتبر العرب الأوائل في جعل أنفسهم موضوعا لهذا العلم، وفي الوقت نفسه هم الأواخر الذين يمكن أن يهتم بهم هذا العلم، لأن من بين مقاصد هذا العلم تجنيب الشعوب الوقوع في أن تصير أضحوكة، وبالنسبة للأفراد يمكن لبعضهم الاستفادة من هذا العلم لكي لا يبقى بؤرة المجالس. من الحسنات السيئة للوسائط الاجتماعية، ومن عجب أنه يمكننا كراهية شيء، وهو حسن، ونحب شيئا وهو كريه (وعسى أن تكرهوا) أنها جعلت أضاحيك حكامنا ووجوه علماء ديننا الحنيف، ووعاظ القنوات، والمفتين في كل شيء، وسياسيينا وأحزابهم، في العالم، ملكا مشاعا للجميع يضحكون منهم وعليهم في آن.
لنتذكر كيف كانت هوليوود تقدم العرب في السبعينيات. لم يبق هذا الضحك وقفا على الآخر، بل صار العرب يضحكون على بعضهم بعضا، ولا يتورع الشعب بدوره عن تداول نصوص وفيديوهات في الوسائط الاجتماعية عما «يُحدِث»ه حكامنا من أحاديث وإحداثات؟ ومن جمال العربية وعبقريتها أن «أحدث» و»الحدث»، كما يمكن أن يكونا من الأمام يكونان من الخلف، تبعا لنوع «الحدث» و»الإحداث»، وصلة أحدهما بالآخر، وشبهه به عمليا ودلاليا. لقد اتخذ هؤلاء الحكام شعوبهم سِخريا، بينما دفعت هذه الأضاحيك التي يُحدثونها شعوبَهم إلى اتخاذهم سُخريا. فيا لسخرية الزمن؟ إنها حرب غير متكافئة، ولكنها حرب لا تؤدي إلى سلام، بل إلى الاستسلام للضحك مادام يوفر نوعا من التشفي والانتقام.
إن السؤال الذي يمكن طرحه بخصوص هذه الأضاحيك، وقد صارت واقعا لا تخطئه العين والأذن، هو: لماذا لا ينتبه المرء إلى أنه صار أضحوكة ويعمل على تصحيح ما قام به؟ أم أن ذلك جزء من شخصيته وتكوينه الفطري الذي لم يستطع التغلب عليه أو تجاوزه، أو أن ذلك فعل مقصود يراد به ممارسة نوع من الكيد للآخر، وتشبث بالأفاعيل الدالة على التعالي وعدم الرضوخ؟ كما يمكن أن تكون الأضحوكة محط الحاكم، تكون محل الشعب. فبصدور قرار سياقة النساء في السعودية، وتساوي الذكور والإناث في الإرث في تونس انتشرت الأضاحيك المتناقضة حول الخطابات التي تم ترويجها، وما تنضح به من تصورات وتمثلات تعكس المتخيل العام. ولم تكن تلك الأضاحيك بلا معنى.
ما أحوجنا إلى الضحك في زمن الهم، والحاجة أكبر إلى «الأضحوكيات» لنتعرف على فهم ذهنية خطابات الضحك، وطبيعتها ووظيفتها.
٭ كاتب مغربي