الحاضنة التراثية والتجديد في الرواية العربية

الحاضنة التراثية والتجديد في الرواية العربية

الحاضنة التراثية والتجديد في الرواية العربية

تونس «القدس العربي» من عبدالدائم السلامي: إذا ذهبنا مذهب القائلين بتأثر الرواية العربية بالرواية الغربية، خاصة ما يُسمى منها ب«الحساسية الجديدة»، جاز لنا الحديث عن موجة التجريب التي ركبتها السرود العربية الراهنة وما فيها من مغامرات في الكتابة عديدةٍ، حيث نلحظ بيُسرٍ هبةَ الروائي العربي إلى التجديد في أساليبه الكتابية، فاتحا باب التجريب على مصراعيْه.
وهو مَا منح السردَ العربي الحديثَ عامة جُرأة في التعاطي مع عناصر الواقع، وفي إعادة تشكيل منجزات الماضي بما يتساوق وذائقة العصر الفنية، ويُلبي رَغبةَ الكاتب في تشريح ظاهرات فكرية واجتماعية وسياسية وأخلاقية، تشريحا يبحث من خلاله عن الأمْثَلِ الفردي المفقودِ في حركةِ الأفكار والقيَمِ الاجتماعية، ليُخلصَه مما قد يعلق به من شوائب يومية ثم يرتقي به إلى مصافِ المنشودِ العام.
والذي نؤكده في هذا الغرض هو أن ميزةَ التجريبِ في بعض السرود العربية لم تدفع بها إلى التبرؤِ من اتصالها بماضيها، بل ظل التجريب فيها نزوعا إلى الاحتفاء بأجناس الكتابة الإبداعية القديمة مع محاولة التجديد فيها، دونما سعيٍ منها إلى الانسلاخ عن كل ما يصلُها بماضيها النثري، بل إن التجريبَ في أغلب سرودنا العربية صار قرينَ حداثةٍ فكرية ونضجٍ إبداعي يأخذ من الأعراف الأدبية القديمة نُسغَه ويُغذيه بالمجلوبات النظرية ذات الصلة. وهو مَا جعل التجريبَ بحثا دؤوبا من قِبَلِ الروائيين العرب عن شكلٍ لأعمالهم جديدٍ، ينهض على دعامة استثمار واعٍ لمدونة النثر العربي القديم، من جهة كونها تمثل حاضنة تراثية وأدبية للرواية، ومرتكزا يمكن أن ينهض على دعامته عمود السرد العربي، لأنه يصعب أن يقوم بناؤه على خواء، ولا بد له حينئذ من سابق يستقوي به على مخاض التكون والاستقلالية، في إطار حوارية نصية وصفها باختين بقوله: «وحده آدم الأسطوري، وهو يقارب بكلامه الأول عالَما بكرا لم يوضع بعدُ موضع تساؤل، وحده آدم ذاك المتوحد كان يستطيع أن يتجنب تماما هذا التوجه الحواري نحو الموضوع من كلام الآخرين، وهذا غير ممكن بالنسبة للخطاب البشري الملموس التاريخي».
ويمكن أن نرى في عودة الرواية العربية الحديثة إلى مدونة السرد العربي القديم، في أجلى خصائصها الفنية التي ازدهرت في القرن الرابع الهجري، كاستثمار الشعر وبنية المُلحة والمقامة والليالي وغيرها، عودة إلى الينابيع النثرية الأولى في ما يشبه الإعلان عن تمسكها بهويتها التراثية. ولا يمنع هذا التمسك بالهوية من القول إن إعلان العودة قد يكون مرافَقا أيضا بتوق الرواية إلى «التخلص من هيمنة الرواية الغربية، عبر التوقف عن تقليدها وفق ما ذهب إليه الباحث محمد رياض وتار، منذ عام 1967، حيث «أدرك المثقفون العرب بعد حرب يونيو/حزيران أن العودة إلى الجذور ضرورية، ليس من أجل الانغلاق على الذات، وتقديس الأجداد، وتمجيد الماضي، والحنين الرومانسي إلى إعادته، بل لمساءلة الذات من خلال مساءلة الماضي، والوقوف على الخصائص المميزة، والهوية الخاصة». ولعل في هذا الوعي بالتعامل مع الماضي ما دفع الرواية العربية لأن تعود إلى قراءة التراث لتمتح منه بعض ملامحها الفنية؛ ذلك أن في مساءلة الروائي ذاتَه الحضاريةَ يُشرع بابا لروايته لتدلف منه إلى تفكيك مفردات تراثها النثري، وإعادة صوغه صوغا جديدا تتحرر فيه من هيمنة الشكل الحكائي القديم بجميع قداسته، وتمنح نفسها حرية توظيفه توظيفا يناسب وقائع راهنها ويلبي أفق انتظار قرائها، ويعبر عن حاجاتهم الراهنة.
واستنادا إلى هذا نزعم بأن نُضجَ النص الأدبي يُقاسُ دوما بحجم المساحة التي يُحررُها من أرضِ المقدس، ليبسُطَ عليها نفوذَه اللغوي في إطار ما يُنشئُ فيه مُبدعُه من مؤسساتٍ جماليةٍ وأخلاقيةٍ ورمزيةٍ، يتجاوز فيها السائد من سلطات المقدس صوب استنبات مقدسات جديدة، ضمن سياق دوري من التقديس والانتهاك؛ لأن النص الذي تهدأ فيه حركةُ المخاتلةِ والمناورةِ والخَرْقِ المستمر لنسيج التصوراتِ يظل نصا مطمئنا، والنصوصُ المطمئنةُ كالزبدِ، لن تصنعَ أسطورتَها مهما علَتْ ورَبَتْ، ولن تُعمرَ طويلا مهما أُسْعِفَتْ بوافرِ الأسباب.
ثم إن الكتابةَ حدثٌ بشري نادرٌ يروم الاكتمالَ دوما ويُخطئُه دائما، لأن الاكتمالَ فيه كف عن المُساءلةِ ومنعٌ للكتابة من حق السؤال، بل إن الاكتمال كَف عن الشك الذي هو رحلة الإنسان إلى يقينه؛ ذلك أنه كلما ثارَ في النص شك في ثيمةٍ من الثيماتِ المتحكمةِ في رِقابِ الواقع أو الضاجة بدلالاتها في سجلات الماضي الأدبي أو السياسي أو الثقافي، واندفع سهمُ سؤالِه يشك جسدَها، انفتحت أمامه مستغلقاتُها، وعرف أسبابها، وبهذا يقترب من وظيفته الاجتماعية، ويصير جديرا بلحظته الراهنة، ومفعما ب«روح المعارضة لا القبول والتناغم» على حد قول إدوارد سعيد.
ولعلنا واجدون في إيحاءات الكتابة الإبداعية دعوة إلى الخروج على المُكرَسِ من معاني الناس المستقرة في المحكيات القديمة وعن تصوراتهم للعالَم فيها، فالإبداع في اللسان يُحيلُ إلى مفهوم المُستحدَثِ من الأشياء وأولِها، وإلى المستنبَطِ منها بعد اكتمالها، فالبِدعةُ هي كل مُحْدَثةٍ. وإننا نجد لمسألة «الاستنباط بعد الاكتمال» تأصيلا في الرواية العربية الحديثة، من جهة جمعها بين أمرين هما انضواؤها تحت مظلة السرد الحديث، والغربي منه بالخصوص من جهة، وعودتُها إلى التراث النثري وتفاعلها معه من جهة ثانية؛ إذْ تنبهت إلى إمكان استثمار ذاك التراث الفني والشكلي استثمارا لا يقطع مع تَوْقها إلى التحديث في بنيتها وأساليبها وأشكالها، بل إنها وجدت فيه ما يجذر فيها هويتَها الحكائية، ويقوي انتماءها إلى عمود السرد العربي ممثلا بألوانه القديمة، كالمقامة والترسل والنادرة وغير هذا كثير.
غير أن احتفاء الرواية العربية الحديثة بعودتها إلى التراث النثري لم يكن احتفاءَ تقديس وتمجيد فقط، وإنما هو احتفاء حاولت فيه تحريرَ جمود بعض بنياته الشكلية والمضمونية، وما استقر منها أصولا في مدوناته المكتوبة.
الحاضنة التراثية والتجديد في الرواية العربية
الدورة الاخيرة لمشروع كتارا للرواية العربية يشير الى الحاجة لجهود نوعية لتحقيق يوم القيامة العربي لصناعة الرواية وبالأساليب غير المتداولة.

m2pack.biz