الحداثة وغيلان التناقض
منذ أن اطمأنت الحداثة إلى وجودها في مداراتنا الكونية والإقليمية، باعتبارها مفهوما، وهي تدرك أن مجال لعبها هو تلك الحقول المزروعة بألغام التضاد والتناقض الناتجين عن التسارع الحثيث، الذي يطبع إيقاعها في جميع القطاعات.
وهو تسارع يؤدي إلى التخصيب الاطرادي والمتتالي لمكونات هذه الحقول، ذلك أن وتيرة تسريع الإيقاع لا تسمح مطلقا بملاحظة ما درج العرف على اعتباره انسجاما/ تكاملا/ وتناغما، وهو ما يؤدي بالضرورة إلى إعادة صياغة بنيتي التضاد والتناقض، وفق تصور مغاير لا علاقة بالتصور السابق لدلالتيهما. فما كان من قبل موسوما بالتناقض، أمسى على ضوء إيقاع الحداثة منسجما، وما كان يعتبر منسجما أضحى في عرفها الجديد متناقضا أو متضادا، إذ في ظل استحالة التنكر للحضور البارز الذي تتميز به ما يمكن اعتباره جمالية جديدة تخص هذه العلاقة، جنحت الحداثة إلى احتواء مبدأ اللاتناغم على سبيل المثال لا الحصر، باعتباره مكونا أساسيا من مكوناتها، وضرورة حيوية من ضرورات وجودها، بل إنها ذهبت أبعد من ذلك، حينما أدرجت التناغم والانسجام الأملس، ضمن المظاهر السلبية التي ينبغي تلافيها في بناء أي نسق من الأنساق الثقافية أو المعيشية.
وعلى الرغم من موضوعية هذا الاقتراح الذي يحتاج الأخذ به إلى حضور شروطه الدقيقة، إلا أنه وبمجرد تداوله في استقلالية تامة عن أي شروط مرافقة له أو مرفقة به، فإنه يتحول إلى أداة رعناء لإقرار واقع متسلط، تنتفي معه إمكانية الحديث عن الحد الأدنى من الضوابط الثقافية والجمالية. هذا الانفلات السريع العدواني والمباغت في المفاهيم وفي القيم، هو الذي يغذي ويؤجج تلك الأضداد وتلك التناقضات، وبالتالي يجعل الالتفاف حول شعار/ مبدأ، أو توجهٍ/ ضربا من المستحيل، علما بأن تبني هذه المفاهيم المنقلبة على دلالاتها، غالبا ما يفتقر إلى إوالياته الموضوعية، كما يظل أسير حدوده السطحية، وأحكامه اللامنطقية التي لا تخلو من الادعاء و المناورة. إن غياب هذه الإواليات يساهم في تعدد مستويات كل من ظاهر الشيء وباطنه، مما يؤدي إلى تعطيل ملكة الحكم والتقييم. بمعنى أن تعدد مستويات الأقنعة يلعب دورا كبيرا في تأجيج حالة الخلط التي تُخرج التضاد والتناقض من طور المنتوج الحداثي، لتزج بهما في طور الإسقاطات الذاتية الصادرة عن الأفراد والجماعات على حد سواء، حيث يكون من حق الجماعات أن تتنكر لقناعاتها القديمة، كما يكون من حق الأفراد أن يتحرروا من ميثاق أي واجب، كبيرا كان أو صغيرا. هكذا إذن يصبح واقع الحال، شبيها بعشرات الأبواب المغلقة،الموزعة على امتداد مسار واحد، بصرف النظر عن طول مسافته، أو قصرها .
وسنكتفي في هذا السياق، بالإشارة إلى تلك العلاقة الملتوية التي تقيمها الحداثة مع الزمن، أو بالأحرى مع التاريخ، والمشوبة بغير قليل من التباسها، بفعل تعذر استخلاص فكرة واضحة عن هذه العلاقة المتأرجحة بين الشد والجذب،تبعا لطبيعة السياق الواردة فيه، حيث يبدو التخلص من عبء التاريخ،أحد المهام المحورية التي تسعى الحداثة إلى تحقيقها،كتعبير ضمني منها عن رغبتها في التخلص من عبء الزمن،وأيضا كمحاولة يائسة منها للهروب إلى الأمام، بما لهذا الأمام من دلالة الانفتاح على نسيان سالب، عقيم وغير بريء. والنسيان هنا، ليس أكثر من جحود،هو مزيج من الكراهية والخوف، والرفض لما يمكن أن يتحول إلى عائق يحد من جموحها، مما يوحي بحضور حالة إنكار مضمر للصيرورة الزمنية المحيلة على تحولاتها التاريخية، والتي يحتمل أن تأخذ بالنسبة للحداثة شكل عائق،يحول دون الاحتفاء بعمى حرية تجد متعتها الكبير في التحليق بين مختلف اتجاهات القول والفعل، و بآلاف ما تملكه، من أجنحة. غير أن التخلص من ثقل الزمن ومن سلطة الذاكرة والتاريخ عموما، يظل ضربا من ضروب الاستحالات العظمى،باعتباره خلاصة سلسلة طويلة من التتاليات التي تنجرف على امتداداتها احتشادات ذوات، تعاني محنة تعرضها للتهديد من قبل إفناء مرتقب، وتقاطعات أكوان وعوالم، تتجاذب في ما بينها متعة التناحر والتصادم. ثم أليست الحداثة في نهاية المطاف بتباين تمظهراتها وتوجهاتها، وليدة هذا التتالي وهذا التعاقب؟، خاصة وأن قبضة التتالي تمسك بالتلابيب،وبالأعناق،عبر ذلك الخيط الرهيف الناظم لودائع الذاكرة، الشبيهة بجرثومة كبيرة نتوارثها جيلا عن جيل، كي نظل أبدا في صراع مع تلك الهزات القديمة، الموشومة بانتكاساتها وبأوهام عطاءاتها.
لكن ومع ذلك، فإن دهاء الحداثة باعتبارها كائنا أسطوريا، متهافتا على احتواء الأمكنة والأزمنة، لا يتردد في التملق الماكر إلى التاريخ، كلما دعت الضرورة إلى ذلك، وهو تملق يرِد في سياق استراتيجية الاحتواء التي لا مكان فيها لمنطق الوفاء العاطفي، أو الالتزام الأخلاقي أو العقائدي بفكرة ما، بشعار أو مبدإ.إن الأمر يتعلق هنا بتلك العلاقة الانتهازية التي تجد مبررها الموضوعي في سياق الضرورة القاهرة، والظرفية الملحة، والتي تقتضي منها التراجع مؤقتا عن منطق القطيعة، إلى حين تمرير رسالة أو خطاب موجه إليك، وإلى ذويك في هذه القارة أو تلك، في هذا الزمن الحاضر أو في غيره من الأزمنة الافتراضية. وفي سياق الضرورة هذه، يحق للكتابة أن تتساءل عن دلالة وجدوى نزوع حداثة منذورة لنداءات المستقبل، إلى استعادة أزمنة عصر الأنوار،وأضواء زمن النهضة، كأقرب سبيل للتعافي من عللها الطارئة أو المزمنة ؟. ومن ذات السؤال، ينبثق سؤال آخر لا يقل إشكالا، وهو الذي يتعلق بحدود حتمية الاحتماء بمراهيم الذاكرة، من أجل إخفاء ما يعتريها من تشوهات تزحف من حين لآخر على سيمائها .ثم وبكثير من الإيجاز، ماذا بإمكان عصر متقادم كعصر الأنوار، أن يقدمه إلى لحظة تنتشي بالتخبط في دوامات تيهها ؟.
لا شك أن أقسى ما يمكن أن يعاني منه الجسد، هو تلك الحالة التي تعلن فيها ذاكرته عن انتمائها المطلق إلى الأزمنة البائدة،أو تلك التي تكون فيها الذاكرة ذاتها مستسلمة لنداءات مستقبل ضل طريقه إلى الهنا والآن. إن مأساة هذا الجسد تتمثل في عجزه التام عن التفاعل مع راهنه، بمعنى أنه يعاني من موته السريري، لأن الذاكرة ومهما تضاعفت ديناميتها، لن تكون أبدا قادرة على الانتقال به إلى عمق أزمنتها انتقالا طبيعيا وخال من الأعطاب، فعلا، يحدث أن تغامر بإيصاله إلى حدود منتصف الطريق، إلا أنها وفي اللحظة اللآمنتظرة، ستكون مجبرة على التخلص منه بانفصالها الرمزي عن أوصاله، كعلامة فارقة على انفصال هموم وأسئلة ذاكرة نوستالجية، عن هموم وأسئلة جسد مدموغ براهنيته. يا لضراوة هذا الشقاق، ويالقسوة هذا التنابذ ذاكرة مصابة بعدوى نزوحها إلى أحراش الماضي، تتخلص من عبء جسد يائس من إمكانية إقناعها بفكرة التأقلم مع نداءات الهنا والآن. هما معا يكابدان من أجل الاستقلال بحضور أحادي، يظل دائما في حكم المستحيل على حساب النفي المتبادل لبعضهما.
تلك هي إحدى المفارقات الكبرى، التي تستدرج فضول الكتابة إلى مدارجها. مفارقة جسد يتحدث لغة غريبة عن لغة ذاكرته، وتواصل مؤجل لن يتحقق، إلا من خلال تواطؤ مؤقت ومشترك، يسمح بتبادل تلك الاستضافات الرمزية، إرضاء لهاجس الحلم باستمرارية محتملة، هي ذاتها الاستمرارية التي تبدع الحداثة في إنضاجها على نار هادئة، قابلة في أية لحظة لكي تتحول إلى نار حارقة، مؤججة بنوايا غيلان التناقض والتضاد.
شاعر وكاتب من المغرب
رشيد المومني