السرد المختلف في «نزلاء العتمة» للأردني زياد محافظة

السرد المختلف في «نزلاء العتمة» للأردني زياد محافظة

السرد المختلف في «نزلاء العتمة» للأردني زياد محافظة

تعتمد رواية «نزلاء العتمة» على ثيمة الموت لتشكيل حركة السرد، وبناء الحدث الروائي، فعليه تدور شبكة العلاقات والمرجعيات الدلالية ومنطلقاتها الرمزية.
وقد كان لهذه الثيمة المباشرة لدى بعض القراء الأثر الكبير في تشكيل انطباعاتهم وعدها العنصر الأبرز الذي يمنح النص تميزه وفرادته لما يمتلكه من غموض فكري وعمق فلسفي يلف عالم الرواية. ولكن يمكن وضع السؤال عن إمكانات الرواية الفنية وهل أن الموت هو فقط ما منحها قيمتها؟
رواية «نزلاء العتمة» للروائي الأردني زياد محافظة فازت بجائزة أفضل كتاب في معرض الشارقة الدولي للكتاب 2015 فرع الرواية، والمنشورة عن دار فضاءات عمان – الأردن، تنبني بصورة أساسية على الموت، حيث يكون السؤال عن قدراته الرمزية وإيحاءاته التعبيرية بأبعاده الوجودية وخلفياته في الأساطير المختلفة، والغموض الفلسفي الذي يحيط به، هل هو حمولة النص الروائي؟ أم أنه جزء يسير من قدراتها الفنية؟ من هذا السؤال تنطلق هذه القراءة للرواية، غير معتمد على كشف بنيتها الفنية التي قد تتسع وتتشعب، ولكن للوقوف على العناصر الأساسية التي تمنحها اختلافها، وكيف أن هذا الاختلاف منحها التميز والتفرد.
تشكيل الزمن الروائي
تتخذ كثير من الروايات طرائق مختلفة في تشكيل زمنها الروائي عبر اللعب على المفارقات الزمنية التي تولد الزمن الفني الخاص لتلك الروايات، ويعتمد ذلك على طبيعة الشخصيات والمنظور الروائي والمادة الروائية ولغتها الخاصة. المختلف في تشكيل هذه الرواية أن لها زمنين، فلكل شخصية داخلها زمنان مختلفان، زمن مرتبط بالعالم العلوي (عالم الحياة) وزمن مرتبط بالعالم السفلي (عالم الموت)، ولكن لا يمكن الفصل التام بين الزمنين، فستجد تداخلا، وتوازيا، وتقاطعا، واختلافا على مسار الأحداث. فقد يحضر زمن الحياة في زمن الموت والعكس. فمثلا مع الشخصية الرئيسة (شخصية مصطفى) كان يتحرك مع الأحداث في العالم السفلي ويجتر في الوقت ذاته الزمن في العالم العلوي، وبين هذين الزمنين مفارقات داخلية متعددة تتمثل جميعها في حركة الاستباق أو الاسترجاع وغيرها؛ مما يولد المفارقات الزمنية على المستوى العمودي والأفقي، وهنا يكون للزمن مسارات مختلفة تتولد منها مفارقات زمنية مختلفة، يجعل من دراسة البنية الزمنية لهذه الرواية مغامرة محفوفة بالصعوبة.
بيد أن الملاحظ هو وجود شخصيات ذات بعد زمني واحد وأهمها مثلا شخصية ياسين، ومن معه من الأشرار، وكذلك شخصيات القمع السلطوي، فارتبط ياسين بالخط الزمني للعالم السفلي من دون أن يظهر تحوله في خط الزمن للعالم العلوي، وشخصيات القمع السلطوي يظهر خط تحولهم في الزمن العلوي، وكأن ياسين هو امتداد لتحول شخصيات القمع السلطوي للزمن العلوي في الزمن السفلي.
ولقد مثل الموقف الختامي للرواية النقطة الجامعة لحركة الأزمنة، وتمثل بشكلها المكثف حركة مفتاحية، وتسجل خاتمة من جهة، ومفتاحا لتساؤلات مختلفة من جهة أخرى. ففي الجملة الأخيرة تقول فدوى – القادم الأخير إلى المقبرة، متحدثة عن أم حسان- «مسكينة أماني أي امرأة أنت لتحتملي كل هذا القدر من العذاب؟» لقد جاءت هذه الجملة لتجمع بين أزمنة مصطفى، وحسان الماضية والحاضرة وتكشفها للقارئ من دون أن تسجل رد فعل مصطفى، فتجعل من النهاية أفقا لأزمنة جديدة.
تشكيل المكان
بالطريقة نفسها التي وجدنا فيها زمنين، هناك بالضرورة مكانان، علوي يستوعب الحياة وحركتها، وسفلي يستوعب الموت وحركته. بيد أن اللافت هو اختيار القبور مكانا مسيطرا بصورة كبيرة، فالقبر يمكن أن يجسد بحال من الأحوال الحالة الوسطى بين العالمين، فكما هو ممتد للأسفل فله شواهد للأعلى. لقد توزعت أحداث الرواية بين العالمين، ولكنها اتخذت نقطتين أساسيتين لحركة الأحداث: القبر والزنزانة، بحيث يمثل كل مكان منهما عالما مختلفا. قد تتداخل الأمكنة وقد تتوازى، وقد يكون المكان السفلي هو امتداد للعالم العلوي.
لقد رأى بعض القراء أن الرواية تعكف على ثيمة الموت بوصفه حالة وجودية، وجعلها خطاً أساسيا لسير الرواية، ويمكن للمتأمل في بناء المكان أن يكتشف أن الموت تكنيك روائي يمكن السارد من حمل الكثير من الدلالات وتوزيعها عبر مسارات جديدة، وتوصيل مضمونها الفكري بوسائل جديدة مع احتفاظها بخلفيتها الفكرية والفلسفية التي تلف المضمون بصورة شاملة، إذ إن وصف القبور والمقبرة بصورة عامة لم تبتعد عن عين السارد الرائي من العالم العلوي وكثيرا ما يقف القارئ باحثا عن تفاصيل القبر ورسم عالم مغاير فلا يجد غير التراب، أما غير ذلك فهي إمكانات ما فوق المقبرة: العود، الشمع، العزف، الناي، الأحجار، ترتيب المسرح، وادي المقابر… إلخ. إن هذا الأمر لا يعني غياب القدرة على تشكيل مكان سفلي بأوصاف خاصة، لكن يتسق تماما مع الفكرة العامة للنص. وتشكل العتمة نقطة التقاء المكانين، عتمة الزنزانة وعتمة القبر، وإن كانت عتمة القبر أقل عدائية من عتمة الزنزانة فقد استطاع مقاومتها والتغلب عليها.
إن الفارق بين المكانين يتمثل في الفارق في معايير الضيق والاتساع، التي لا تقاس بالأبعاد المعهودة، بل بأبعاد ذات ارتباطات قيمية أكبر، فالقبر مثلا وإن كان أكثر ضيقا من الزنزانة، فإنه يبدو متسعا وأكثر ألفة منها، ذلك أن القيمة المحيطة بالوجود في كلا الحالتين اختلفت.
كما أن الاختلاف أيضا يأتي من أن أطلال المكان العلوي في عقل الشخصية تؤثر في تشكيل المكان السفلي والإحساس به، ولكن لا يمكن أن يحصل العكس، فالحد الزمني للانتقال من المكان الأعلى إلى المكان الأسفل لا يقبل العودة أو الانعكاس ليرسم خطا مسايرا للخط الطبيعي، الذي تسري معه ذكريات وأحلام الماضي إلى المستقبل وليس العكس.
وقد تمكن السارد من استعمال تقنية الحكايات الجزئية، أو ما يمكن تسميتها بالطريقة الشهرزادية لربط الأمكنة وحبكها والانطلاق من الحاضر إلى الماضي، الذي يسافر عبر الامكنة والأزمنة، مثل حكي مصطفى لحسان، وحكي أم طه لمصطفى.
تشكيل الشخصيات:
بحسب السيميائيات السردية فليس ثمة شخصيات، بل أدوار تقوم بها عوامل، قد يكون هذا العامل هو شيء ما، من هنا يمكن القول إن هذه الرواية تضمنت الأمرين معا بيد أن هناك لكل شخصية حياتين، ولكنْ دور واحد، الشخصية تنتقل من الحياة الأولى إلى الآخرة، ولكن الدور الذي تقوم به لم يتغير، وهكذا ترتبط الشخصية بالبنية السطحية في حين يرتبط الدور بالبنية العميقة للنص. مصطفى الذي ناضل من أجل الحرية، ليبقى معتقلا عشر سنوات تحت التعذيب، يأتي إلى القبر حاملا ذلك النضال من أجل مواجهة العتمة ذاتها، في حين أن الفضيل صاحب الفضل في الحياة الأولى، يظل على دوره حاملا الفضل والنبل إلى الحياة الأخرى. ياسين ورفاقه هم امتداد لدور القمع في الحياة الأولى، حاملين دور معاداة الجمال والتسامح والنور، إنه الدور ذاته الذي يقوم به السجان في الحياة الأولى. وإضافة إلى هذا الشكل من الشخصيات ببعديها المتغير والثابت يمكن لقارئ النص أن يكتشف نوعا مغايرا من الشخصيات هو ذلك النوع الذي له دور فاعل في حركة النص وتحريكه، كما أن له علاقة فاعلة مع الشخصيات الأخرى. الموت مثلا يمكن أن يكون شخصية إذ يمكن للقارئ المتتبع أن يكتشف ملامحه وسلوكه، وعلاقاته وتحولاته وتحويلاته ومثله قيمة الحرية والعتمة والألوان.
تشكيل رؤية النص
تكتسب الرؤية السردية في هذه الرواية إمكانياتها من تنوع الوسائل السردية داخلها والآتية من تنوع الأزمنة والأمكنة أيضا. وإذا كان الراوي في أغلب زوايا النص قد بدا في صورة العالم بكل شيء آخذا نظرته الداخلية والعميقة من موقعه الخارجي والبعيد فإنه استطاع أن يصل بنا إلى تلك الأعماق السحيقة في النفس الإنسانية بسلاسة ومن دون إقحام مستفيدا من الموت كفكرة وجودية ذات امتداد غامض يسمح للخيال أن يطرق أبواب السرد بهدوء.
لقد اتخذ الراوي موقعا فوقيا في رصد الأحداث، حتى وهو في عمق المقابر، وفي دهاليزها وممراتها الضيقة وأحجارها وترابها وواديها ظلت الرؤية الفوقية هي المسيطرة على السرد وهذا الأمر يعزز القول إن الموت كفكرة لم تكن الثيمة التي تريد الرواية أن تتعمق في تفاصيلها بل الموت هنا بوصفه تقنية وأداة بيد الكاتب للتنويع الفني من جهة وللاستفادة من إمكاناته الرمزية في تعزيز كثير من دلالات النص.
صحيح أن الموت يحضر من زاوية فلسفية، ولكن هذا العمق الفلسفي هو ما أراد الكاتب أن يتخذه لتوصيل أفكار أعمق منطلقا من فكرة الحياة ذاتها، والحرية وملاحقة النور، ومحاصرة الظلمة، فهي التي تسيطر على نظرة الراوي للأحداث عبر الزمنين والمكانين، مما يجعل فكرة الجمال والحياة هي الخط المستقيم عبر زوايا السرد، فلم يكن الموت كمهرب من الألم أو خوفا، بل بحثا عن أفق أرحب للحرية والجمال والاتساق مع الذات.
كثيرة هي الشواهد التي توضح طبيعة موقع الراوي من عالم علوي مثلا: امتداد مشكلات العالم العلوي إلى السفلي، بصورها المختلفة وكذلك اللصوصية ومعاداة الجمال، التضليل، ثم التراتبية في العالم السفلي وسلم القيم هو ذاته في العالمين. بما يعني من كل هذا أن السارد أراد أن يقدم عالما دلاليا، ولكن بصورة جديدة مختلفة وأن الموت كفكرة وإن كانت قد سيطرت على معظم أجزاء النص فإنها استكمال لبنية الحياة ذاتها، الحياة من منظور متسع باتساع الحرية وأفقها الذي يتجاوز حدود الأزمنة والأمكنة.
كاتب يمني
محمد المحفلي

m2pack.biz