العرض العراقي «الأقوى» رؤية المخرج… من النص إلى الفضاء المسرحي

العرض العراقي «الأقوى».. رؤية المخرج… من النص إلى الفضاء المسرحي

العرض العراقي «الأقوى».. رؤية المخرج… من النص إلى الفضاء المسرحي

العراق «القدس العربي» من مروان ياسين الدليمي: هناك انغمار كبير في محاكاة المسرح العراقي أساليب المسرح الحديث، خاصة في إطار الإخراج المسرحي، يبدو ذلك واضحا بشكل أكبر بكثير من النص المسرحي العراقي، إذ بقيت الكتابة للمسرح في مرحلة لم تصل إلى ما وصله المخرج المسرحي، فتجربة الإخراج نضجت كثيرا وتنقّلت أدوات المخرج وتقنياته بين أساليب مختلفة ما منح تاريخ المسرح في العراق محطات وأسماء مهمة.
النص الغربي
دائما ما كان المؤلف الأجنبي حاضرا في العرض العراقي منذ تجربة الرواد في خمسينيات القرن الماضي، وكان اختيار النصوص غالبا ما يستند إلى الأسماء المؤثرة في المسرح الغربي مثل، شكسبير، أبسن، تشيخوف، بيكت، بريشت، وبرانديللو وغيرهم من المؤلفين المسرحيين الذين مثلت نصوصهم علامة تحول في بنية النص المسرحي، ومن ثم انعكاس ذلك على أساليب المعالجات الإخراجية.
العرض الأخير للمخرج ياسين الكعبي الذي يعمل استاذا في قسم المسرح في كلية الفنون الجميلة يأتي ضمن هذا السياق العام للإنتاج المسرحي العراقي، إذ اعتمد على نص للكاتب السويدي ستردنبرج (1849- 1912) حمل عنوان «الأقوى» وتم تقديم العرض من قبل الفرقة الوطنية للتمثيل التابعة لدائرة السينما والمسرح في نهاية شهر يناير/كانون الثاني 2018.
بنية النص
ينتمي النص من حيث الشكل إلى نصوص المونودراما، فالشخصية هنا تمثل امرأة تعيش صراعا داخليا نفسيا، كما هي معظم نصوص المؤلف ستردنبرج الحافلة بشخصيات تعيش وضعا ذاتيا مأزوما، تجد نفسها في حالة صراع داخلي عنيف ما بين الروح والجسد. هذا ما تجسد في الشخصية الرئيسة لهذا العرض (أدتها الممثلة فائزة جاسم ) بالتالي باتت تعيش تحت ضغط عالم متخيل تحتشد فيه شخوص وأحداث متصارعة تعكس ما تحمله في داخلها من قيم ورغبات وهواجس متناقضة تتوزع ما بين الانجذاب إلى غرائز ونوايا شريرة وقيم روحية تسمو بها إلى المثل العليا.
الرؤية الإخراجية
أسعفت ياسين الكعبي خبرته المسرحية في إيجاد حلول تقنية للخروج من بنية المونودراما، التي كان عليها شكل النص، لم يشأ ياسين الكعبي أن يبقى العرض أسير المونودراما كاطار تقني، فاختار أن ييني عالما مسرحيا افتراضيا يعكس ما يدور في مخيلة الشخصية الرئيسة من أحداث وشخصيات متصارعة تمثل عالمها الباطني، الذي يستقر في لاوعيها. هذا الإجراء من قبل المخرج دفع بالعرض إلى أن يخرج من محدودية الفضاء المسرحي كما جاء في النص، ويتحرك في فضاء درامي غير خاضع لمحددات المكان والزمان، فأصبحت أمامه حرية لامحدودة في بناء معادل صوري للعالم الداخلي للشخصية، لينزاح من بنيته الملفوظة في النص إلى بنية مرئية محسوسة على الخشبة، بدل أن يكون حبيسا داخل مخيلة الشخصية، بذلك باتت مفردات عالمها الداخلي القابعة في ظلمات لاوعيها، كما جاءت في النص مكشوفة ومجسدة في العرض بأحداثها وشخوصها، وما يصدر عنهم من أفعال وردود أفعال، فما هو غير واقعي أصبح واقعيا ملموسا، وما هو متخيل بات شاخصا ومتحركا على الخشبة، بمعنى أن كل ما يراه المتلقي من أحداث وشخصيات مجسدة على المسرح قد جاء حضورها الملموس انطلاقا من بنية افتراضية تخيلية، ابتكرها المخرج مستنطقا من خلالها دواخل الشخصية الرئيسة.
تعبيرية الأسلوب
والفضاء المسرحي
مساحة الخيال التي اشتغل عليها المخرج في إيجاد العالم المعتم الدفين في أعماق الشخصية الرئيسية منحته فرصة اللعب الفني الحر لبناء عالم متخيل أقرب إلى عالم الكوابيس بما تحفل به من غموض في دلالاتها وفي عدم اكتمال الأفعال والأحداث وتداخل الأزمنة والشخوص، بذلك اشتغل المخرج على قيمة الانزياح في التعامل مع الدلالة طالما هي تتحرك بحرية في الزمان والمكان. أما بخصوص الفضاء المسرحي فقد لجأ المخرج إلى مقاربة جمالية ابتعد فيها عن مرجعية الدلالة الواقعية لمفردات قطع الديكور، فلم تكن مقاربته وصفية، بل مالت إلى شعرنة المفردة الواقعية وإغنائها بطاقة تشفيرية بالشكل الذي تعبر عن رؤيته الإخراجية التي أزاح فيها سلطة النص الأدبي باعتباره (مونودراما) لصالح عرض مؤثث بمحمولات سيميائية وإشارات بصرية مفرداتها جسد الممثل وقطع ديكور كانت بمثابة علامات سيميائية أزاحها في دلالة تواجدها وتقابلاتها المتنافرة مع بعضها من وجودها الواقعي إلى وجود فانتازي، فالمخرج تعامل مع الفضاء المسرحي باعتباره يحمل مفهوما أوسع من أن يستوعبه المكان بمفرداته المادية الواقعية.
سيميائية الجسد
مفردة الجسد في عرض «الأقوى» استثمرها المخرج في إطارها التعبيري ولم يعد جسد الممثل عنصرا ثانيا أو ثانويا بعد الملفوظ اللساني (النص) إنما أخذه بعيداً عن وظيفته الواقعية إلى منطقة الاشتغال الجمالي، حيث يتحول من كتلة فيزيائية إلى جسد منتج وباث لمنظومة علاماتية تبعث برسائل مشفرة إلى المتلقي تفرض عليه أن يحرك وعيه النقدي لفك رموزها ودلالاتها، وهذا ما تجسد بشكل واضح في أداء الممثل رحمن مهدي أكثر من بقية الممثلين وقد ساعدته رشاقته على أن يكون جسده مشعا ومطواعا في حركته، كذلك الممثلة آن خالد، التي تملك من الأدوات الجسدية والصوتية ما يؤهلها لأن تمنح الفضاء المسرحي حضورا وحيوية. أما بالنسبة للممثلة فائزة جاسم التي أدت الشخصية الرئيسة فهي ممثلة تمتلك خبرة طويلة في المسرح، فقد بدأت العمل منذ منتصف ثمانينيات القرن الماضي، رغم أن مسيرتها تتخللها فترات توقف طويلة، إلاّ أن وزنها الزائد الذي ظهرت به أعاق حركتها إلى حد ما، وحدَّ من قدراتها في الأداء، رغم الجهد الكبير والجميل الذي قدمته.
العرض العراقي «الأقوى»: رؤية المخرج… من النص إلى الفضاء المسرحي

m2pack.biz