الفعل الثقافي في الجزائر نجاح الشباب وإخفاق الوزارة

الفعل الثقافي في الجزائر .. نجاح الشباب وإخفاق الوزارة

الفعل الثقافي في الجزائر .. نجاح الشباب وإخفاق الوزارة

كان المتابعون للميدان الثقافي في الجزائر قد وصلوا إلى يأسٍ شبه تام من برامج وزارة الثقافة التي تتمتع بميزانية ضخمة مقارنةً مع ضعف التأثير وتعطُّل الحركة الثقافية، إذا ما استثنينا تلك المهرجانات الغنائية والراقصة البعيدة كل البعد عن جوهر الثقافة، حين برزت مجموعة من المبادرات الشبابية بثت الحياة في ما عد ميتا.
طبعًا لا أحد ينكر أن الوزارة قد نجحت في إنجاز مشاريع مادية خلال تظاهرة تلمسان عاصمة الثقافة الإسلامية عام 2011، ثم في تظاهرة قسنطينة عاصمة الثقافة العربية سنة 2015، لكن ذلك لا يمثل أي شيءٍ في ميزان التفاعل الثقافي أو “التثاقف – Acculturation“، لأن قيمة المشروع هو مدى استفادة الفئات المستهدفة منه.
وحين نطرح سؤالا بسيطا على أي طالب جامعي أو كاتب مبتدئ أو أي مواطن مهتمٍّ بالثقافة -في صورها العامة- عن تظاهرات تلمسان وقسنطينة وعن الملتقيات والندوات التي تنشطها وترعاها وزارة الثقافة والأجهزة التابعة لها، فإننا سنجد انفصالا كاملا على وجه التقريب بين هؤلاء المثقَّفين وبين تلك التظاهرات السنوية والدورية.
ويمكن أن نحصر أسباب هذا الانفصال في عدة نقاط، أبرزها ما يلي:
الخمول الإعلامي فلا زالت وزارة الثقافة تعتمد الطرق التقليدية في الإعلان عن برامجها ومشاريعها، وذلك بنشر الملصقات الإعلانية (ملصقات ورقية) في أماكن محدودة، وهذا يكشف مدى الفجوة بين المسؤولين وبين تكنولوجيا الإعلام الحديثة وتقنيات التواصل مع الجمهور، فمثلا نجد الصفحة الرسمية للوزارة على فيسبوك لا تحظى إلا بعدد قليل من التفاعلات على منشوراتها، كما أن نشر الإعلانات على الموقع الإلكتروني لا يؤدي أي دور في الوصول الإعلامي.
النخبوية والجهوية الطبقة الفرنكوفونية وبعض المستفيدين من الضخ المالي للوزارة تقريبا هم من يتحصل على برامج المشاريع والملتقيات والتظاهرات الثقافية، أما الطبقات الشعبية خاصة في المناطق الداخلية والجنوبية، فلا تحظى إلا بالقليل من المشاريع، وهذا واضح جدا إذا ما أحصينا عدد المؤسسات الثقافية (مسارح، دور سينما، مكتبات عمومية، متاحف…) سنجد الفرق شاسعا بين توافرها في المدن الكبرى وعلى رأسها العاصمة ووهران، وبين المدن الجنوبية حتى تلك التي تحظى بكثافة سكانية كبيرة مثل مدينة الجلفة، بوسعادة، ورقلة، أدرار، المشرية، بشار، بريان.. وغيرها..
لكن في مقابل هذا الغياب الرسمي عن الفعل الثقافي؛ نجد ثورة ثقافية فعلية تتفاعل مع نبض الشارع وتلامس شغاف الإرادة الشبابية وتستجيب لمتطلَّبات الفئات الشعبية البسيطة، تتمثل هذه الثورة في عدة مبادرات أنجزها شباب من مختلف مناطق الوطن، دون أي دعم رسمي من قِبَل الوزارة، لا في بداياتها ولا حتى عند استمراريَّتها، وهذا ما يجعلنا نتساءل عن سرِّ النجاح الباهر الذي حققته هذه المبادرات الشُبَّانية؟ وفيما يلي سنذكر نماذج من هذه المبادرات:
مبادرة الجزائر تقرأ انطلقت هذه المبادرة على شكل صفحة في موقع التواصل الاجتماعي الأكثر شعبية في الجزائر “فيسبوك”، وذلك سنة 2015، كانت تشتمل على عدد قليل جدا من المتابعين وتنشر معلومات عن الكتب، وبعد عمل متواصل مدة سنتين أصبح لدينا دار نشر دخلت بقوة إلى معرض الكتاب الدولي (26 أكتوبر – 05 نوفمبر 2017) وشاركت بقرابة ثلاثين عنوانا جديدا ما بين نصوص روائية ومسرحية ومجموعات قصصية وغيرها، كان هذا الانتقال الكبير في ظرف وجيز يمثل شبه معجزة في عالم الثقافة بالجزائر.
أضحى لهذه المبادرة عدة فروع ونشاطات في مختلِف ولايات الوطن، وقامت بتنشيط كثير من المعارض الجهوية والمشاركة في معارض وطنية (معرض ولاية قسنطينة 12 نوفمبر 2017، معرض ولاية تلمسان الوطني، معرض ولاية ميلة بدار الشباب محمد لدرع، معرض ولاية باتنة في مقر المركز التجاري فيستفال سيتي، معرض ولاية البليدة ..) وغيرها، فضلًا عن أن صفحة “الجزائر تقرأ” باتت تُتابَع من طرف 330.000 شخص تقريبا.
كما أن هذه المبادرة حملت أسماء مشابهة قامت بها مجموعات شُبانية حسب الولاية التي ينتمون إليها، فنجد صفحة “قسنطينة تقرأ” (نحو 7000 متابع)، صفحة “ميلة تقرأ” (7500 متابع)، دون أن نتطرق إلى المجموعات المرتبطة بهذه الصفحات والتي تشهد نشاطا وحوارا ثقافيا كبيرا بين الشباب الذين تنحصر أعمارهم غالبا بين (17 سنة إلى 39 سنة).
مبادرة مكتبة الشارع لم تعد مكتبة الشارع مجرد صور نشاهدها في شوارع ألمانيا وفرنسا ولبنان، بل أضحت حقيقة في شوارع كثير من المدن الجزائرية، تبرع الشباب الجامعي ببعض كُتبهم في مدينة سكيكدة وميلة وعين الملح وغيرها لصالح خزانات صغيرة تُثبَّت في الشوارع الرئيسية لتلك المدن حتى يكون الكتاب قريبًا إلى الشارع، كل من يريد أن يقرأ كتابا فليفتح تلك الخزانة وليأخذ ما طاب من الروايات أو الكتب المتوفرة فيها وليقرأ وليرجعها متى شاء، ف”القارئ ليس سارقًا” كما يقول أصحاب هذه المبادرات.
مبادرة تبادل الكتب هذه المبادرة انطلقت منذ سنوات داخل الجامعات الجزائرية، وزاد نشاطها مع الإعلان عنها عبر مجموعات فيسبوك مثل مجموعة “عشاق الكتب” (تضم نحو 16000 عضو) التي نظَّمت عدة لقاءات بين الشباب لتبادل الكتب.
مبادرة سلسلة تنوين هذه المبادرة أصلها حركة شبابية فلسطينية، تحتوي على عدة أنشطة وتظاهرات ثقافية، ولها كثير من الفروع في الدول العربية ومن بينها الجزائر، وتعتبر “مبادرة شبابية تطوعية، ترتكز في هدفها الرئيس على تعزيز ثقافة القراءة في المجتمع، من ثم ترجمة الأفكار والكلمات إلى أعمال تطوعية اجتماعية مؤثرة في حياة الناس منطلقين من رؤيتنا وإيماننا بالإنسان وقدرته على الفعل والتغيير متجهين نحو إطلاق ممكنات الإنسان و إثبات إمكانية العمل بين فئة الشباب تحديدًا”، حسب ما جاء في الموقع الإلكتروني الخاص بها.
وقد حظيت بتفاعل كبير داخل الجزائر، حيث توجد لها عدة صفحات على مواقع التواصل الاجتماعي من أبرزها صفحة “تنوين وهران” والتي يتابعها أكثر من 10000 (عشرة آلاف شخص)، وصفحة “تنوين الأغواط” بقرابة 6000 متابع، وصفحة “تنوين المسيلة” بنحو 3500 متابع وغيرها.
وتتخذ هذه المبادرة شعار “الأرض كلها مكتبة، والقارئ ليس غريبا”، جاء في صفحة “تنوين وهران” كتعريف لأنشطتها وأهدافها ما يلي: ” ترتكز المبادرة بشكل أساسيّ على دعوة عامة للناس إلى لقاء دوريّ, يقومون فيه بالقراءة لمدّة 30 دقيقة في مكان عام, يقرأ فيها كل شخص كتابًا من اختياره .. متبوعة بنقاش بين القراء، لإثراء المعارف وتبادل الأفكار”.
وعن أهداف المبادرة يقول القائمون على الصفحة: “تعويد المجتمع على وجود القارئ، إزالة الحواجز بين الناس والكتاب، كسر عزلة القارئ في مجتمعنا، زرع قيمة “كتابي صديقي” في كل مكان”
هذه المبادرات وغيرها الكثير تشترك في أنها إنجازات شبابية بحتة، ولا تتلقى أي دعم من أي جهة رسمية، سواء وزارة الثقافة -التي من المفترض أن تكون الداعم الأول لهذه الأنشطة- ولا الأجهزة التابعة لها كمديريات الثقافة، ولكن التأثير الذي أحدثته يمثل هزة حقيقية في المجتمع الجزائري الذي بات يتفاعل مع “ثقافة الكتاب” دون أي حساسية، ومن الشواهد التي تصدق هذا الأمر هو الإقبال الكبير من الجزائريين على معارض الكتب المحلية والاهتمام بالإنتاج الأدبي للكُتَّاب الشباب بعد أن كان الإقبال منحصِرًا في كتابات وأقلام الجيل القديم.
كل ذلك يجعل من الواجب إيصال رسالة إلى مسؤولي وزارة الثقافة من أجل إعطاء الأولوية لهذه المبادرات الشُّبَّانيَّة التي أنجزت في ظرف وجيز ما لم تنجزه الوزارة المعنيَّة طيلة عقود مع ما صحِبها من إنفاق مادي لم يكن له أي تأثير حقيقي في الوسط الثقافي الشعبي.
الوسوم
الجزائر الحياة الثقافية الجزائرية

m2pack.biz