الكشف المعرفي عن الذات في «لائحة رغباتي» للفرنسي غويغوار دولاكور

الكشف المعرفي عن الذات في «لائحة رغباتي» للفرنسي غويغوار دولاكور

الكشف المعرفي عن الذات في «لائحة رغباتي» للفرنسي غويغوار دولاكور

يقول ميلان كونديرا «الرواية هي تأمل في الوجود»، والتأمل بمفهومه الفلسفي إطلاق للروح الإبداعية نحو مسافات لامرئية ومغيبة عن وجودنا الحسي، ولذلك اعتنى أصحاب المذاهب الروحية بالخلوة والتأمل، من أجل تحرير الروح من قيودها. وبهذا المعنى الذي يحدده كونديرا تكون الرواية مساحة غير محدودة رسمتها أدوات السرد، إذ تخلص الرواية صاحبها من رتابة العبارات اليومية، في حين تجعلنا – نحن القراء- نلتقي بذواتنا لنكشف فيها مواقفنا من الحياة ورغباتنا المختبئة في بحر اللاوعي، الرواية ببساطة تُثقفنا بما نريد وما لا نريد، وبذلك يكون السرد المرآة السحرية التي تخبر الروائي والقارئ عن الأماكن الخفية في أعماقهم.
لقد أسهم الروائي الفرنسي غويغوار دولاكور في روايته «لائحة رغباتي» بهذا الكشف المعرفي عن الذات، إذ ساعد قارئه على الإبحار في ذاته بحثا عن رغباته، وبالمقابل لجأ كثيرون ممن قرأوا هذه الرواية إلى كتابة لائحة رغباتهم الخاصة، ليكشفوا عما يتمنون اقتناءه من أشياء، لكن السؤال الذي يلي تلك القائمة هو ماذا يعني أن تمتلك الأشياء؟ ماذا يعني أن يكون عندك شغف لاقتناء أفضل العطور وأرقى الملابس وأحدث طراز من السيارات؟ وماذا يعني أن تمتلك قائمة رغبات؟
وقفت جوسلين بطلة الرواية أمام هذا السؤال، بعد فوزها بجائزة يانصيب قيمتها ثمانية عشر مليون يورو، ماذا ستفعل السيدة الفرنسية صاحبة متجر الخياطة في مدينة آراس الريفية البسيطة بكل هذا المبلغ؟ إن أقصى طموحها هو أن تطور المتجر الذي اشترته بعد قرض من البنك في أول سنة من زواجها، بالإضافة إلى اقتناء سيارة بحدود 36 ألف يورو والتمتع بإجازة صيفية مع عائلتها. لم تكن جوسلين من صنف النساء الفرنسيات اللافتات الجمال، كانت امرأة عادية مع القليل من البدانة، التي اكتسبتها بعد إنجاب أطفالها الثلاثة، اكتسبت الكثير من الحزن بعد فقدان طفلتها الثالثة، لكنها عرفت كيف تواسي ذاتها بإغراقها بأعمال متجر الخياطة والكتابة، أنشأت لنفسها مدونة تكتب فيها عن الحياة والطبخ والتفاصيل اليومية، كانت تواسي ضجر السيدات من الحياة، وأصبح لديها ما يقارب الألفي متابعة.
يلوح للمتلقي قلق جوسلين من الثروة المفاجئة، عندما قررت إخفاءها الخبر عن عائلتها وأصدقائها، وإخفاء ورقة اليانصيب في خزانة الأحذية داخل فردة حذاء قديم. تركت جوسلين كنزها السري، وبدأت بمراقبة الأغنياء في متاجر البضائع باهظة الثمن، تتساءل في نفسها لماذا يقتني الناس هذه الأشياء، هي الآن قادرة على اقتناء أثمن المجوهرات والعطور، وتستطيع أن تختال بغرور عندما تخرج من المتجر، كما تفعل معظم السيدات هنا، لكن ما الذي تقتنيه بثمانية عشر مليون يورو؟
تختبئ جوسلين داخل ذاتها وتكتب قائمة رغباتها وتتأمل تفاصيلها الصغيرة، مشجب الحمام، ثوب السباحة، أحمر شفاه، قميص لزوجها من ماركة لاكوست… وتدرك أنها أمام عالم المتعة القصوى الذي صاغه الأثرياء منذ أيام الأمبراطورية الرومانية حتى زمن الطبقة المخملية في أوروبا، إذ كان مذهب النخب الثرية اقتناء المجوهرات الثمينة وإدخال المعادن الثمينة في تفاصيل حياتهم، ثم صاغ العصر الصناعي مبادئه على الفكرة ذاتها لكن مع تعزيز لذة التملك، لنصل إلى عصر الاستهلاك، الذي ترددت جوسلين في اقتحامه. إن ما تخشاه جوسلين من أموالها هو ضياع التفاصيل الصغيرة من جمال احتياجاتها التي تسعى لامتلاكها، إذ تقول في مدونتها على الإنترنت:
«لأن احتياجاتنا هي أحلامنا الصغيرة اليومية، هي أشياؤنا الصغيرة الواجب فعلها، التي تقذفنا إلى الغد، إلى ما بعد الظهر إلى المستقبل، هي الأشياء التافهة التي سنشتريها في الأسبوع المقبل وستتيح لنا التفكير بأننا سنكون أحياء أيضاً في الأسبوع المقبل».
إن تساؤلات جوسلين الوجودية ترى في لائحة التسوق رغبة بالحياة، وحباً للاستمرار، وهذه اللذة بعيدة عن لذة الامتلاك والسيطرة التي بنى عليها العصر الصناعي مجتمعاته الحديثة، لكن ظلال المجتمع الاستهلاكي مزقت سرها على حياتها عندما اكتشف زوجها أمر الورقة الرابحة وسرقها ثم رحل، فما كانت تقاومه حصل ببساطة، ورغم رومانتيكية الخاتمة، إذ أرسل الزوج لها ما تبقى من المال بعد أن أنفق حوالي مليون ونصف يورور على المتعة والسفر، إلا أن جوسلين بقيت حريصة على عدم التوغل في عالم الامتلاك، وحرصت على مغادرة منزل العائلة إلى سكن ريفي بسيط، واعتزال مهنة الخياطة.
لقد قدمت هذه الرواية نموذجين للذات الإنسانية، الأولى (جوسلين) التي تراقب العالم من خارج الأنا، وتحرص على الإلمام بتفاصيله من خلال الكتابة والتدوين والتأمل حتى أمام لحظات تاريخية كالفوز بورقة يانصيب، والذات الثانية هي (زوجها) الذي أضاع أمام حب التملك والاقتناء جمال أعوام طويلة وتفاصيل صغيرة لا يمكن أن تبتاعها ثمانية عشر مليون يورو. كانت جوسلين تسعى إلى الكسب الذي يتصف بالمعاني المجردة، هو امتلاك جمالي ولذلك وصف المؤمنون بأنهم (يكسبون) الأجر والثواب، في حين كان زوجها يسعى إلى شهوة الامتلاك المحكوم بطبيعة مادية قائمة على الاستهلاك والربح.
إن السؤال الذي يراود القارئ بعد إنهاء الرواية، هل حقا نحن نعيش لذة التفاصيل الصغيرة وجماليات الاقتناء؟ أم أننا نسعى للاقتناء من أجل الامتلاك في ظل مجتمعات استهلاكية بدأت تطغى عليها تجارة الموت، ونرى فيها الإنسان يعيش من أجل نفسه.
وإن عدنا إلى واقعنا سنرى أن البعض قائمة رغباته تكون محدودة بمجموعة عطور وجهاز هاتف جديد تضاف إليها تشكيلة جديدة من أحدث تصاميم دور الأزياء العالمية، لكن البعض الآخر تكبر قائمة رغباته لتشمل امتلاك مدن ودول وإقامة إمارات تحكمها رغبات دوّنها التاريخ الديني وتوارثها قراؤه، وبذلك تضيع قائمة رغبات البسطاء بامتلاك أرض زراعية أو منزل على الطريق العام أمام قائمة رغبات إيديولوجية مسكونة بلوثة الدم والتاريخ.
أكاديمية سورية
أماني العاقل

m2pack.biz