المدافن في وادي الفرات الشمالي للبريطانية ليزا كوبير… مقاربة أركيولوجية للموت في المجتمع القديم

المدافن في وادي الفرات الشمالي للبريطانية ليزا كوبير… مقاربة أركيولوجية للموت في المجتمع القديم

المدافن في وادي الفرات الشمالي للبريطانية ليزا كوبير… مقاربة أركيولوجية للموت في المجتمع القديم

ترجمة وإعداد: صالح الرزوق
□ درس الباحثون مرارا أساليب الدفن القديمة وما يترافق معها من طقوس، باعتبار أن كليهما يوفر معلومات ثمينة عن سلوك وإيديولوجيا الإنسان في الماضي. أساليب الدفن، مثلا، تقدم دليلا على معتقدات المجتمع القديم حيال الموت والآلهة والعالم الآخر. ومثل هذه الدراسات عن الدين القديم تعتبر حقلا له أهميته، فهي تقدم معلومات حيوية عن الإيديولوجات الأساسية التي كانت تؤمن بها المجتمعات القديمة، والتي منحت لتقاليدها وعاداتها المتميزة شكلا وهيئة.
وحاليا، تؤكد الدراسات كيف أن البقايا في المدافن تساعدنا على تفهم الطريقة التي تنتظم بها الجماعات. وأشكال المقابر وطقوس الدفن ونوع الهبات في المقابر ومكان ردمها، يضمن رؤية عمودية لبنية المجتمعات على الصعيد الاجتماعي والاقتصادي. وعليه فإن دراسة السلوك المرافق للموت يفسر سلوك الكائن الحي نفسه.
وكان لويس باينفورد واحدا من أوائل الآثاريين الذي أكد على قيمة البقايا في المدافن لمقاربة الأحياء، وبين أن التنوع في أساليب الدفن هو ثقافة وعملية مباشرة تنجم عن التعدد الاجتماعي في تلك الثقافة. ولكن انتقد بعض الباحثين فشل باينفورد في التمييز بين التمثيلات الإيديولوجية للدفن والعلاقات الاجتماعية التي قد لا تنجم مباشرة عن بنية المجتمع القديم (بولوك 1999). وعلى الرغم من هذه المشكلة، يبقى عمل باينفورد شديد الغنى في التعريف بالبرامج النوعية التي اكتشفت العلاقات الأركيولوجية بالتنظيم الاجتماعي وبقايا المدافن…
واليوم، يشير عدد من الدراسات إلى ضرورة التركيز على الناجين الأحياء، الذين اعتنوا باحتضار الميت ودفنه والعناية بقبره، وليس على الوضعية الاجتماعية للمتوفى نفسه.
فالقائمون على واجب العناية بالميت، قد يفكرون بأسلوب دفن لائق يعيد ترتيب الأدوار الاجتماعية والمسؤوليات في ما بينهم. وقد عمل ج. باريت على دراسة قبور من العصر البرونزي المبكر في جنوب بريطانيا، وأشار إلى أن «المعزين هم المشاركون الفعالون في طقوس الدفن وفي كل الأساليب اللاحقة التي تؤدي إلى تشكيل وبناء النظام الاجتماعي» (1990). وسلوك طرق وطقوس الدفن التي يقوم بها الأحياء خلال الجنازات لا تعكس نظام المؤسسة الاجتماعية، ولكنها أيضا تقوم بمهمة تشكيلها وبنائها. ولذلك، فإن الخصائص الملموسة في الدفن، والعلامات الموضوعة على المقابر، والهبات المدفونة في الأضرحة، وبقايا الطقوس لا تعبر عن سلوك الدفن، ولكن لها أيضا سلطة متحولة فهي تحدد وتعيد تعريف الأدوار الاجتماعية والهويات الثقافية…
□ معطيات المقابر والمدافن في حوض الفرات: غير أن عدة نقاط ضعف وفراغات في المعلومات المتوفرة جعلت إعادة تركيب الصورة المستقاة من بقايا المدافن عملا تخمينيا في أفضل الأحوال. إحدى المشاكل هي الطبيعة المجزأة للسجل الأثري. ففي عدة مواقع، ألحقت ألوف السنوات الاضطراب في المدافن، ولاسيما بفعل عناصر الطبيعة، مثل المطر والتعرية. إن محتويات عدة مقابر كانت مغمورة بالمياه التي تحمل السلت، وأدى ذلك إلى إلحاق الضرر بالأشياء المدفونة، أو أنه حركها من موضعها داخل الضريح. هذه التجوية الناجمة عن مرور الزمن وفعل الطبيعة أودت أيضا إلى إفناء بعض المواد المهمة وتحللها. وقد تحول قدر من الهبات الموجودة في القبر إلى مواد عضوية فقط. وهذا يفسر الشكل الغريب لدبابيس النحاس المتصالبة التي وجدت في رأس ورقبة وأقدام الهياكل العظمية المكتشفة. إن هذه العناصر المعدنية ربما هي مستخدمة لتثبيت الكفن بالجثمان، وقد قاومت الفناء، بينما لحق التحلل والاندثار بالقماش. هناك أيضا آثار واضحة لأشياء خشبية، ومنسوجات، وبقايا سلال، موجودة على الأرض الناعمة في الضريح رقم ٧ من تل البنات، وربما يعود ذلك إلى أشياء كانت موجودة معا، ولكنها اندثرت بسبب تركيبها العضوي (بورتير 2002).
وتسببت سرقات الأضرحة أيضا بالخراب الأعظم لمواضع الدفن في وادي الفرات. ومع أن بعض السرقات كانت جرت في عصور سالفة، فإن عددا كبيرا منها تم مؤخرا، فقط قبيل غمر الوادي بالفيضان في نهايات القرن العشرين. وفي معظم الحالات، كان على المنقبين أن يتسابقوا مع الزمن لدراسة المقابر، ليس خشية من الفيضان والغمر بالمياه لاحقا ولكن أيضا خوفا من تعرية القبور على أيدي اللصوص المتحمسين للحصول على ريع مرتفع في السوق لقاء اللقى الفنية التي نهبوها.
إن سرقة المدافن أدت لضياع الصورة الدقيقة للميت وهو في قبره بسبب تكسير العظام أو تبديل الطريقة الأصلية لإيداعها في الحفرة. لقد كانت هذه المقابر المنتهكة تبدو شديدة الاختلاف عن سواها، التي لم تمتد يد العبث إليها كما هو الحال في تل حلاوة، حيث أمكن تسجيل وضع الهيكل العظمي بدقة، ناهيك عن سهولة تسجيل جنس (مذكر أو مؤنث) وعمر كل جثة على حدة…
ومن المشاكل الأخرى في المعلومات الأركيولوجية هو الطريقة التي جمعت ثم سجلت بها في الماضي. وبما أن العمليات الرسمية المتبعة غير معروفة في عدد من مشاريع التنقيب، فإن أهمية المعلومات المكتشفة تعتمد غالبا على مهارة المنقب نفسه وعدد ودقة الملاحظات التي اختار تدوينها.
ولسوء الحظ، يتأثر الأركيولوجيون باهتماماتهم النوعية وبأجنداتهم. فمشروع يهتم بدراسة الأنثروبولوجيا الشكلية لبقايا الإنسان في القبر، قد يكون على حساب دراسة تفصيلية للفخاريات واللقى الصغيرة التي توجد جنبا إلى جنب مع الجثمان.
وبالعكس، لو أن المنقب يهتم بالتسلسل التاريخي قد يركز على تكوين مجموعة الفخاريات في المدفن بمحاولة لتشكيل سياق ثقافي تاريخي، وهذا يقوده إلى إهمال بنية الضريح ونمطه وموقعه في المقبرة وحجمه وهندسته. ومثل هذه النقائص والعيوب تتكرر في البعثات الأثارية وتجعل من إعادة تكوين وتركيب صورة المجتمع القديم قليلة الدقة ولا سيما في ما يتعلق بالسلوك الاجتماعي والايديولوجيا..
ليزا كوبير: أستاذة مساعدة في جامعة كولومبيا البريطانية في كندا. تعمل في تدريس ديانات وحضارات الشرق الأدنى، والترجمة بإذن مسبق منها، ومن كتابها «بواكير الحواضر في نهر الفرات السوري» روتلدج لندن 2006.
كاتب سوري

m2pack.biz