«المنجز التشكيلي في المغرب» لإبراهيم الحيْسن مقاربات معرفية لأسئلة الحداثة والإبداع

«المنجز التشكيلي في المغرب» لإبراهيم الحيْسن.. مقاربات معرفية لأسئلة الحداثة والإبداع

«المنجز التشكيلي في المغرب» لإبراهيم الحيْسن.. مقاربات معرفية لأسئلة الحداثة والإبداع

الرباط «القدس العربي»: بدعم من وزارة الثقافة، وضمن منشورات جمعية أصدقاء متحف الطنطان للتراث والتنمية الثقافية، صدر حديثاً للناقد التشكيلي المغربي إبراهيم الحَيْسن كتاب بعنوان «المنجز التشكيلي في المغرب- روافد وسمات» من القطع المتوسط، يقع في 272 صفحة مذيلة بملزمة ملوَّنة للأعمال والقطع التشكيلية، ويتضمَّن لوحة صباغية للمبدع حسن المقداد.
بعد مدخل تاريخي موجز، يرسم هذا الكتاب خرائط الإبداع التشكيلي في المغرب في اتصاله بظهور مدرستين للفنون الجميلة أسَّسهما الأجانب، إحداهما في تطوان والثانية في الدار البيضاء، مروراً بالمحاولات التأسيسية التي قامت بها جماعات فنية (أبرزها جماعة 65) سعياً إلى النهوض بالفنون الوطنية انطلاقاً من الأرضية البيداغوجية، وأيضاً إثارة سؤال الهوية والوعي البصري في التشكيل المغربي الحديث والمعاصر. فضلاً عن ذلك، يعرض الكتاب أهم التوجهات الفنية التي انخرط فيها رسامون وتشكيليون مغاربة في أفق التقعيد لممارسة تشكيلية وجمالية (مستقلة) كثيراً ما أمست أسيرة لفخِّ التقليد والاستنساخ وإعادة نماذج فنية برَّانية دخيلة على العين المغربية.
وتحت عنوان «المراهنة على الفن المعاصر في مقاومة استيعاب التحديث للحداثة» كتب المفكر التونسي محمد بن حمودة (مدير المعهد العالي للفنون والحرف في صفاقس) تقديماً للكتاب أوضح فيه أن إبراهيم الحَيْسن رأى ضرورة إعادة النظر في العناصر المكوِّنة للمنجز التشكيلي المغربي وبنياته، ولأبعاده، وكذلك لمساءلته بغية ربط مسألة الهوية بتفعيل واسع للطاقات الكامنة. ومن أجل مسايرة تعدُّدية هذا المنجز كان الحَيْسن مهتما (إن لم نقل مهوساً) بالخرائطية. ولعل هذا الاهتمام بالجانب «الخرائطي» هو الذي جعل تقويماته تأخذ في اعتبارها الطاقات الكامنة التي قد يظهرها التفاعل مع عناصر إضافية. وتسمح هذه المقاربة بالتعامل السلس مع الطابع اللامتكافئ للمنجز ولمجالات وسجلات الإنجاز. وقد وضح الحَيْسن هذا الخيار المنهجي عندما استعرض عدداً من التجارب التشكيلية، فدقق قائلا: «رغم أنّ كل هذه التصنيفات تظل نسبية، فإنها تعكس، في مناح كثيرة، نوعاً من الاجتهاد وتكشف عن رؤية حاذقة وتتبع جيِّد لمسار الممارسة التشكيلية في المغرب، من دون عزلها – بطبيعة الحال- عن السياقات الجمالية والمناخات الإبداعية العالمية التي ساهمت بشكل أو بآخر، في نشأتها وظهورها»، وقد احتاج تكرار التدقيق عندما انتقل به الحديث إلى مجال النحت. فعلى رأيه أنّ «المنحوتة لم تكن أحسن حالاً من اللوحة الصباغية داخل خريطة الإبداع الجمالي المغربي»، ويواصل متابعة تعرُّجات الخريطة الإبداعية فيضيف قائلا: «وبالنسبة للخزف الفني «السيراميك» و»الديزاين» فحدِّث ولا حرج. فكلاهما ينحصر في تجربة أو تجربتين جديرتين بالذكر».
وأثنى محمد بن حمودة على الموقف الإبستمولوجي الذي اعتمده إبراهيم الحَيْسن والآخذ في اعتباره التباين الحاصل بين المرجعية الثقافية والمرجعية الفنية؛ وهو التباين الذي لا يمكن مفصلته بطريقة منتجة إلاَّ من خلال معالجة خرائطية تسمح بتخطي النشاز الحداثي بين، سكونية ودوغمائية القيمة الثقافية من جهة وبين صورية وكوسموبوليتانية القيمة الإبداعية من جهة أخرى؛ ذلك ليعبُر بالنشاز المذكور نحو علاقات فصل ووصل موسومة بالحركية وبالمقلوبية. وبمقاربة هذا المزدوج المرجعي مقاربة خرائطية، أمكن لإبراهيم الحَيْسن أن يباشر القيمة الفنية من دون الإذعان لحتمية الانسلاخ الثقافي الذي يولده طابعها المنقطع والترنسندنتال (المتعالي)؛ كذلك أمكنه مباشرة القيمة الثقافية من دون الإذعان لحتمية التوحيد بالخفض الملازم لميلها الأصلي من حيث هي قيمة ثقافية، أي قيمة تستدعي مشاركة توافقية، بل وإجماعية.
وتابع صاحب التقديم قوله: قام إبراهيم الحَيْسن باستكشاف مسارات وشبكيات خريطة المعاصرة، ولهذا الغرض أصدر السنة الماضية كتابه الموسوم: «الفن التشكيلي المعاصر- خرائط الفن وتحوُّلاته»، وبعد أن وقف في الفقرة الأولى من القسم الأول من الكتاب عند «معنى المعاصرة والفن المعاصر» خصَّص الفقرة الثانية من القسم الأول ل»فن التجهيز- خرائط المصطلح». وعلى مستوى الصفحة الخامسة والعشرين يشير الحَيْسن إلى أنّ «فن التجهيز يتيح للفنان حرية أن يكون صانع مصائر لا تحتكم إلى تقنية بعينها ولا تتقيَّد بخيال مادة دون سواها. صار كل شيء ممكنا إلى درجة العدم والتخلي». هكذا تبين للحَيْسن أن المرور من الحديث إلى المعاصر ترافق مع استبدال منوال «الشوفاليه» بمنوال «التجهيز» أو «التنصيبة». وحدها الأخيرة قادرة على مجابهة رحابة الممكن الموالي لانفساح حقولية فاعلية التضمين الفني. حيرة الباحث إبرهيم الحَيْسن حيال هذه الرحابة تذكرني شخصيا بحالة «إيف ميشو» التي دفعته للحديث عن الفن وقد أصبح غازاً. هنا وثمة يتعلق الأمر بانفعال سببه المواجهة الفجائية لفجوة موالية لتغير جذري على مستوى الإحداثيات. وهي خبرة حدثنا عنها ديكارت، ولكن ليقنعنا بأهمية مرجعية النماذج المثالية وبأهمية الضمانة التي توفرها الحقائق. إذ منذ كتاب البصريات لديكارت صير إلى إدراك اهتزاز الثقة في صلاحية المرجعيات كضرب من الدوار والغثيان الذي يسبِّبه مشهد هوَّة سحيقة.
وقد اعتبر مجاز الهوَّة السحيقة نموذجا لوضع يقع العقل خلاله تحت سلطة الخيال. وتجنُّباً للخور الملازم من منظور الكلاسيكية لمثل هذا الوضع، اعتبر ديكارت ومن تلاه من الكلاسيكيين أنّ العمى هو نموذج الرائي والمبصر المثاليين. فالعين غير المفتونة بالحس هي تبصر على منوال اليد: لا تقبض على مادية الموجود الحسي الماثل في الحين والهنا كوجود لا على التعيين، ولكنها تبصر من خلاله للجنس الذي يسبغ عليه هوية معلومة. على هذا النحو سيتمُّ تخفيف مخاطر الدوار وما يتبعه من غثيان، بمراجعة أسس ما هو مشترك على نحو يسمح بتوحيد المرجع، فيجعل من التداولية مقياسا مطلقا، وهو المقياس الذي يستجيب له التصوير على أفضل وجه، بما أنّ العروض التشكيلية هي تستند تلقائيا للخيار التداولي. هكذا نفهم البعد الصادم للفن المعاصر من حيث هو إذعان لأصلية خبرة الدوار وانفتاح على الفوضى العميقة التي وقانا الأعمى من بلواها. ولكن من منظور الفن الطليعي ثمَّ المعاصر فالرِّهان هو ردُّ الاعتبار للعفوية حتى تسمح للمواطن الغربي باستعادة المرونة التي فقدها من جرّاء فرط إذعانه لما تقتضيه الحداثة من استيعاب للنازع الباطني ضمن الاستجابات الخارجية، وقد استفحل الاستيعاب المذكور حتى غدا الإنسان الحداثي إنسانا بلا سريرة وكائنا حضاريا يمكن اختزاله إلى نسق من العلامات الثقافية التي يبيعها سوق المنتجات الرمزية التي راجت إلى حد جعل السوق المذكور يحقق نصف الدخل الخام العالمي.
ولذلك، شدَّد إبراهيم الحَيْسن، على أنّ المنشأة الفنية ليست «مجرَّد تركيب أسلاك ومكعبات وشموع وكراس ومسامير وكراتين.. وتجميعها بطريقة ما داخل ركن، أو فضاء معين تتعاقب فيه الأضواء بحسب نظام ما، أو وفق هندسة فضائية معينة.. قدر ما هو إبداع تشكيلي جديد متحوِّل وقائم الذات أساسه تفكير جمالي مدروس يعتمد التأمُّل الجيِّد في المادة والسند وإدراك التحوُّلات البصرية الناتجة عن تركيبهما في الفضاء. والمنشأة الفنية – فضلاً عن ذلك- ساهمت بقسط وفير في توسيع المدرك البصري والسمعي من خلال ما أبدعه فنانون عالميون من أداءات وعروض وإنجازات جمالية مفتوحة على كل الوسائط والسنائد التعبيرية بما في ذلك الجسد الآدمي وغيره.
غير أن ما كان يمنح المغاربة قوتهم ويزكي حضورهم الإبداعي، هو أن هذا التراث الذي شيّدوه، ظل – من دون انسلاخ- يستمد أسسه وملامحه من تربة الفنون العربية الإسلامية الخصبة، كما يتجسّد ذلك في العمائر والأضرحة والمساجد والمنازل التقليدية ومختلف الصنائع والمشغولات الشعبية التي أبدعتها يد الصانع التقليدي المغربي من منتجات معدنية، نحاسية وفضية، مزينة بنقوش جميلة وبديعة، كالصواني والأباريق والمباخر والقماقم وصناعة التسفير، أو التجليد وتنميق الجلود وزخرفتها، وكذلك صناعة الزرابي والمنسوجات الحريرية الشفافة الملوَّنة بألوان بهيجة، أو الموشاة بالذهب، فضلاً عن الحلي والأسلحة المزخرفة والخزفيات الملونة والأدوات الخشبية المزينة والمنقوشة ببراعة نادرة.. وغير ذلك كثير. تبقى الإشارة إلى أن غلاف الكتاب من تصميم الفنان التشكيلي فيصل أحميشان.
الطاهر الطويل

m2pack.biz