«الموت عمل شاق» للسوري خالد خليفة.. خنجر في بطن الوهم

كفيلم وثائقي يؤرخ الكاتب خالد خليفة في روايته الأخيرة «الموت عمل شاق» لحقبة سوداء في التاريخ السوري ويضع القارئ من اللحظة الأولى في مرمى الحدث، حيث يبدو له عسيرا بعد مدة إدراك صور أخرى غير صور الموت المنتشرة في كل مكان. ووقت آخر عليه ان يمضي قبل أن يستعيد إدراكه المرتبك توازنه ثانية وتجد رائحة الموت والعفن التي ستزكم أنفه أيضا طريقها للخروج.
الحياة «مجموعة أفعال تافهة لا بد ستنتهي» هذا هو رد الفعل الأول الذي ستحشرك في زاويته رواية «الموت عمل شاق»، حيث يأتي النص كارثيا بمستوى الحدث، موغلا في سيريالية الواقع السوري الذي تخطى حدود اللامتوقع والمستحيل.
«الموت عمل شاق» رواية سيدفع أبطالها ثمن أعوام طويلة من الأوهام والهزائم، يخيم فيها شبح الموت على الجميع من دون استثناء، منطلقا من جثة عبد اللطيف السالم، الوالد الذي هم ابناؤه في تنفيذ وصيته الأخيرة بدفنه في مسقط رأسه قرية العنابية، في أشد أيام البلاد حلكة ودمارا ليجتمع الثلاثة مجددا بعد قطيعة «كانت الفعل الوحيد الجيد الذي قاموا به»، ويجدوا أنفسهم مضطرين لأن يحشروا في ميكرو باص واحد مع الجثة الميتة في رحلة عليها أن تجتاز البلاد على طولها وتجتاز النفس على آخر ما تبقى منها.
شكلت الجثة في العمل مفارقة الحياة الوحيدة، فبينما يواجه كل من فاطمة وحسين وبلبل (نبيل) تاريخهم المثقل بالهزيمة وخيباتهم المتلاحقة وعار الذكريات، كانت تطفو روح الجثة على طول الرحلة حية منتصرة وغير مكترثة بكل هذا العفن ولا بأهوال الطريق التي كادت تودي بحياة الجميع. فقد انضم عبد اللطيف إلى الثورة السورية وهو عجوز في السبعينيات من عمره واستعاد من خلالها كل ما سرق منه منذ أربعين عاما، استعاد حبه القديم وكرامته وشغفه بالحياة، حتى رغبة دفنه في قبر اخته التي خذلها حين قررت ان تنتحر، أيضا كانت محاولة منه للتكفير عن آخر الخطايا وإصلاح كل شيء. جثته المتعفنة هي كناية عن رداء من الذل خلع إلى غير رجعة، هي اندحار للخوف وانتصار للحياة وربما هذا ما عناه خالد عندما وصف روايته بأنها «رواية عن قوة الحياة».
وبينما تبدو الجثة المنتصر الوحيد يدور كل شيء آخر بالنسبة للأبناء الثلاثة في فلك الهزيمة الموجعة، فقد استطاع الكاتب أن يرسم في نماذج بلبل (نبيل) وفاطمة وحسين خطوط الهيكل النفسي للمواطن السوري الذي تشكل خلال العقود الأربعة الماضية.
ابتداء ببلبل الرقيق الجبان الذي سحق الفقر كل طموحاته فلم يجد خيارا أفضل من نسخة والده «المثقل بالمثاليات» ليقلده، وتحولت حياته إلى فيلم طويل من الرتابة لا يخلو من الكثير من أحلام اليقظة نافذته الوحيدة للهروب من الواقع وطريقته للتعويض عن العجز «فهو كما الجميع يحتاج إلى تحويل ركام الذكريات السوداء إلى صفحة بيضاء»، كي يستمر في البقاء على قيد الحياة.
ومن بعده فاطمة التي شكلت نموذجا لامرأة عادية لايزال الرجل يحدد مصيرها في كل شيء اقتنعت كغيرها من النساء بأن خلاصها الوحيد لن يكون إلا في شريك ثري وحياة جاهزة، وعندما تحطمت أحلامها على صخرة تحول كبرياؤها إلى كتلة كبيرة من الحقد والأنانية التي لا تكف عن الإفصاح بثرثرة تافهة «ككل الذين يفقدون كبرياؤهم تخبو عيونهم وتتراكم الأحقاد في داخلهم يميلون إلى الثرثرة وتأليف بطولات وهمية عن حياة لم يعيشوها».
أما حسين فهو مثال الشاب الذي امتلك كل أسباب التفوق التي كان من الممكن أن تجعل منه شيئا ذات يوم. أدرك مبكرا أن قدراته لن تمكنه من الضفة الأخرى مهما عظمت، وفرصته لن تتعدى فرصة أي شخص عادي غير موهوب، فاختار أن يقتحم عالم المال والسلطة من أصغر وأقذر أبوابه، وكانت النتيجة بأن تحول إلى نكرة لا يعترف بها أي من الطرفين.
يمرر الكاتب بلغة انسيابية فكرة العبث التي تسود المناخ العام للرواية، جنبا إلى جنب مع الموت، وتشكل محركا أساسيا للأحداث، بدءا باعتقال جثة ميتة وإجبارهم على دفع رسوم مرورها، كما تعامل البضائع «فلا يهم إن كانت جثة أو جيفة حتى»، وانتهاء بدفنها في قبر وحيد وبعيد يلقي بعناء الرحلة في مهب الريح ويحول عن تلبية غايتها الأساسية في تحقيق وصية الوالد.
تمتد رحلة تأخذ على الأكثر ست ساعات إلى ستة أيام، كان لالتقاط الكاتب فيها باقتضاب وذكاء بعضا من تفاصيل ما يحدث يوميا على الحواجز بأنواعها الثلاثة، دور كبير في عكس السيريالية السوداء التي يرزح تحت سطوتها المشهد السوري، بضع دقائق فقط قد تحول الرجل نفسه من خائن إلى بطل، من مؤمن إلى كافر، بضع ثوان فقط قد تنجيه من موت محقق أو تقوده إلى حتفه المحتوم .
ينهي الكاتب روايته من دون أي تغير واضح في المواقف، بل على العكس تعود الوجوه وملامح الهزيمة تبدو أكثر حضورا تفقد فاطمة صوتها ويودع بلبل حسين من دون أن يتبادلا حرفا واحدا، ليعود ويندس في فراشه «كأنه جرذ كبير يعود إلى جحره البارد، كأن لا لزوم له ومن الممكن التخلي عنه ببساطة».
رموز وكنايات كثيرة في عمل خالد خليفة الذي يأتي بعد أربع سنوات منذ انطلاقة الثورة السورية تخلص بوضوح شديد إلى رأي الكاتب في الواقع السوري الحالي، كان الفقر والظلم فيه شرارة الثورة التي كشفت عن الأوهام السياسية والاجتماعية وعرّت ما يدعى بمنظومة الأخلاق والفضيلة ووضعت الجميع في رحلة لإعادة اكتشاف الذات، لكن في المقابل بقي المواطن السوري الفائض الوحيد في المعادلة السورية حتى الآن، الجميع يمسك بزمام أموره ما عداه اليوم، والجميع يدفع بحياته إلى حافة الموت من دون أن يكون له حول أو قوة في الدفاع عن نفسه.
كاتبة سورية
حلا يمليخا
كان الأجدر أن يكون العنوان” الموت عمل سهل” لأنّنا نرى كل يوم صورة الموت و التقتيل في سوريا هكذا بكل بساطة و مجّانيّة…كم هو مؤسف حالنا نحن العرب
نعم الموت عمل شاق ، وتنفيذ وصية الأب أثبت ذلك ، إنه شاق علة المواطن السوري العادي ، ولكنه سهل على كل من يتخذ من الدماء وسيلة لبقائه والتربع البائس على مملكة اصبحت للنهب والسأم