تاريخ السلطة الثقافية ومحنة الدرس النقدي
[caption align="aligncenter"]تاريخ السلطة الثقافية ومحنة الدرس النقدي[/caption]بات من الضروري وعي المعرفة بوصفها خطابا، ووعي مقولات هذا الخطاب بوصفها مصادر لاستعمالها، ولبيان قوتها بوصفها مرجعيات لضبط المفاهيم والمقولات، ولتشغيل المناهج والنظريات، فضلا عن فعاليتها في تقانات التواصل والإشهار والنقد. لقد بات من الضروري أيضا وضع البداهات المتداولة في هذه المعرفة ومجالاتها المجاورة في الأدب، وفي النظر إلى التاريخ أمام مقاربات المراجعة والنقد، ليس لأن هذه البداهات فقدت شرطها الاستعمالي في التاريخ حسب، بل لأن المعرفة ذاتها تميل- بالضرورة- إلى التجاوز والتجديد والإضافة، فضلا عن رفضها التموضع في لبوسات وأوهام التاريخ والمتحف والمقدس. وأحسب أنّ الحديث عن القطيعة يملك رهانه من خلال التجاوز ذاته، ومن خلال تبني مقولات جديدة لإثراء فاعلية الوعي ولوظيفته النقدية، تلك التي يمكن اعتمادها في مواجهة رهابات السلطة الرمزية، والسلطة الواقعية، فضلا عن اعتماداتها في إبراز علموية تقانات التحليل، وفي تعميق مسار المستويات الإجرائية للنظرية النقدية، والتحقق من فعالية ما يذهب إليه النقاد، ومن طبيعة ومرجعيات أسئلتهم، ومقارباتهم في إجراءات التحليل وفي تتبع مسار حركية النص وتحولاته. مقولة (العقلانية النقدية) قد تكون صالحة لعقلنة النظرية، ولقراءة أسفار التاريخ الأدبي، وكذلك للمعرفة فاعلية الخطاب بوصفه يقوم على فكرة (أدبية الأدب) كما يسميها رومان جاكوبسن، لكنها ستكون أكثر قوة حينما تعمد إلى تحفيز العقل النقدي، ودفعه إلى سياق توليدي، وإلى مستوى وظائفي يُنضّج آلية الانتقال من البنية اللغوية إلى البنية الدلالية، والبنية الوظيفية أيضا، إذ سيكون فعل التحفيز دافعا لإعطائه شرعنة عقلانية تقوم على استعمال المناهج في إطارها الوظائفي، وفي سياق بيان القدرة على مواجهة الكثير من الدوغمائيات التي تحكم اليوم عقلنا الثقافي والتاريخي اليوم. هذه الدوغمائيات لها تمثلات في السلطة وفي المقدس، وهي ليست تعبيرا عن الفكرة الصيانية لهذا المقدس، أو حتى فكرة الأدب العام، بقدر ما أنها مجموعة من الأفكار التي تُنتجها الجماعة، والتي تحولت – خارج النقد- إلى سلطة، والتي فرضت خطابها العصابي القمعي على أي محاولة للتجاوز، وتحت يافطة حيازة القوة الشرعية، وقوة الحُسبة والرقابة والتكفير، مقابل تموضعها في سياق سسيوتاريخي تدعمه ظاهرية النقل، وسلطة الفقه والإيديولوجيا، وفقه المنع المضاد لأي نزوع للاجتهاد والتأويل، وفي إعادة النظر في مهيمنة القياسات القامعة.. وإذا تحدثنا عن تاريخ محدد لبعض مظاهر العقلانية النقدية، التي ارتبطت ببعض حركات الاعتزال ذات المرجعيات المعروفة، فإننا نجد أن الدراسات التي عُنيت بأثرها هذه الحركات ظل محدودا في إطاره الأكاديمي من جهة، ومن بعض المقاربات في الدراسات الاستشراقية من جهة أخرى، فضلا عن أن هذه الحركات- رغم أهميتها التاريخية والبحثية- فإنها لم تستطع تقويض مهيمنات القوة السرية للاوعي الجمعي القار والضاغط في عقل السلطة وفي عقل الجماعة، وأن ارتباطها ببعض ما أنجزه رواد ما سمي ب(التنوير) لم يتعد السطوح، إذ أنه ظل مبتورا وشائها وقابلا للنقض، لأنه لم يعمد للتأسيس والتأصيل، أو التموضع داخل مشروع ثقافي قابل للتواصل والديمومة. تاريخية التجاوز.. إذا جاز لنا القول بوجود لحظات ثقافية خارقة في تاريخنا الحديث، حيث انخرط العديد من رواد الفكر والعلم في مواجهات جريئة مع السلطة والمقدس، ورغم أن هذا الأثر خرج عن الاستعمال، وحتى عن الذكر والحفظ لأسباب تتعلق بقوة السلطات المانعة، التي عمدت على محو ذلك الأثر بوصفه خروجا على القياس وعلى الحكم الشرعي. فرغم أنّ تاريخ المواجهات الثقافية كان جزءا من تفاعلات ثقافية مهمة مع ثقافات إنسانية كبيرة، إلّا أنّ جدية أولئك الرواد كانت هي الفيصل في تبني خطاب التجاوز، وفي شرعنة فعاليته الثقافية انطلاقا من مرجعيات العقل، ومن وعي الاجتهاد وضروراته في مواجهة خطاب النقل ودوغمائياته.. فكتاب طه حسين «في الشعر الجاهلي» الصادر عام 1926 ارتبط بالمؤثرات الثقافية التي تعرض لها طه حسين في باريس، التي استلهم فيها منهجية الشك المعرفي عند ديكارت، بوصفه شكا عقليا بالمنقول، لكن هذا الشك المعرفي فقد الكثير من بريقه في مراحل لاحقة، جراء ما تعرض له من ضغوط أكاديمية ودينية واجتماعية، فضلا عن نزوعه للمراجعة الاجتماعية والثقافية، لاسيما بعد استيزاره، وهو ما أفقده الكثير من غريزة المغامرة، فضلا عن أن الكثير من الكثير من رواد ما سمي ب(النهضة) فقدوا أيضا شهية اقتحام الحصون القديمة مثل توفيق الحكيم وإسماعيل مظهر، وحتى علي عبد الرازق صاحب الكتاب المشهور «الإسلام وأصول الحكم» وكذلك نازك الملائكة بعد كتابها النقدي المثير للجدل «شظايا ورماد» الصادر 1949 إذ أن الكثير من تلك الأفكار والطروحات النقدية حول الأسلوب الشعري الجديد في حينها، اصطدم بالمؤسسة التقليدية ذات المهيمنات الشرعية والأصولية، وكذلك بالنزعات الباطنة وأنساقها المضمرة للاوعي الجمعي، الذي كثيرا ما يتحول إلى قوة ردع وإخضاع مرعبة. التكفير والتفكير وعنف الأفكار تاريخ الثقافة العربية، والعراقية بشكل خاص ارتبط بالأدب، حتى بتنا خاضعين إلى ما يمكن تسميته ب(الاستبداد الشعري) ولم تحظ مواقف مهمة لأدباء تجاوزوا مهنتهم إلى خطوط التنوير والإصلاح بالاهتمام الجاد أمثال، جميل صدقي الزهاوي ومعروف الرصافي وعلي الشرقي والشيخ محمد رضا المظفر، إذ ظلت مواقفهم متهمة بما يشبه المروق والشيطنة، مقابل ما ظل به الشعراء الآخرون من هوسٍ وهم يمارسون نقد السلطة، ونقد مظاهر الجهل والتخلّف والفقر من خلال الشعر فقط، وكأن قراءة هذه المواقف تخضع لطبيعة مزاج السلطة السياسية والفقهية، ولنا – كذلك في طروحات معاصرة لعلي الوردي وجواد علي، أمثلة ساطعة على طبيعة تعاطي السلطة مع طروحاتهما، فالأول تحدث عن الشخصية العراقية في ازدواجيتها وتناشزها وتغالبها، وعن صراع البادية والحضر، وتأثير ذلك على المزاج والممارسات الاجتماعية وعلى العمران الثقافي، حتى قراءات الوردي للتاريخ حظيت بمراجعات نقدية قاسية كالت له الكثير من التهم وصولا إلى حدّ العزل ومنع طبع كتبه.. كما أنّ طروحات المُفكّر جواد علي حول تاريخ العرب ما قبل الإسلام، وحول إشكاليات الخطاب الديني ورؤيته العقلانية للكثير من المظاهر التي ارتبط بالصراع، وبالأسئلة حول عديد الشخصيات الغامضة في الإسلام أثارت لغطا ورفضا واتهاما، وجدت في السلطة السياسية دافعا لفرض ما يشبه العزلة على هذا المفكر حتى موته كمدا. مقابل ذلك نجد شاعر فحوليا مثل الجواهري ظل يمارس سلطته الشعرية بالضد من السلطات الأخرى، يناور ويغامر ويسلّط جام غضبه ونقده للسلطة، ولعدد من المظاهر السياسية والاجتماعية، لكن السلطة ظلت تقاربه وتستميله حدّ أنها يسرّت له حياة رغيدة، وقايضته بمكارم باذخة، ووضعت شعره خارج لعبة الرقابة والنقد الذي تفرضه على الآخرين، وحتى موقف السلطة الدينية لم يجد في شعر الجواهري بتنوع مشاغله وأغراضه بما فيها الخمريات والغزليات أي مثلبة تُخرجه عن القياس الشرعي. هذا التناشز السلطوي ونظرته المفارقة كانت سببا في تغييب تقاليد الفكر النقدي، ومنع قيام مدارس تتأصل في مناهجها ومباحثها قيم الدرس العلمي، وأهلية المنحى العقلاني، ولعل ما نعانيه اليوم من تشوهات بائنة تعود إلى سياسات العزل التي فرضها تاريخ السلطة على الدرس العلمي في الجامعات وفي المدارس الثقافية وحتى في مجالسها… ناقد عراقي
]]>