تاريخ العالم العربي في معهده الباريسي ملتقياتٌ وجائزة

تاريخ العالم العربي في معهده الباريسي.. ملتقياتٌ وجائزة

[caption align="aligncenter"]تاريخ العالم العربي في معهده الباريسي.. ملتقياتٌ وجائزةتاريخ العالم العربي في معهده الباريسي.. ملتقياتٌ وجائزة[/caption]

على غرار «ملتقيات التاريخ» التي استضافتها مدينة بلوا الفرنسية كلّ سنة، ابتداءً من سنة 1998، أطلق معهد العالم العربي في باريس في ربيع السنة الماضية «ملتقيات تاريخ العالم العربي» ثم أحياها للمرّة الثانية من 20 إلى 22 أيّار/مايو الجاري. ولمّا كان القوم في المعهد لا يعيدون اختراع العجلة كلّما احتاجوا إلى ركوب الدرّاجة فقد استعانوا بما اجتمع من خبرة لبلوا ودعوا المشرف على ملتقياتها فرنسيس شفرييه إلى مدّ يد العون.وقد زكّى هذا التعاون أن وزير الثقافة السابق جاك لانغ، وهو اليوم رئيس معهد العالم العربي، كان هو الذي أطلق ملتقيات بلوا أصلاً أيّام كان رئيساً لبلدية المدينة. وفي كلّ دورة، تُفتتح ملتقيات المعهد بمنح «الجائزة الكبرى لتاريخ العالم العربي»، وتعطى لكتابٍ جديد موضوع بالفرنسية أو مترجمٍ إليها يعالج موضوعاً منتمياً، على نحوٍ ما، إلى تاريخ العالم العربي. نقول «على نحوٍ ما» لأن لائحة «الأنواع» التي يُحتمل انتماء الكتاب إليها مرنة إلى حدّ أن الرواية التاريخية، مثلاً، غير مستبعَدة من السباق، فضلاً عن كون الكتاب يسعه أن يختصّ بأي فرعٍ من فروع التاريخ أو أيّ مرحلة من مراحله. والجائزة متواضعةٌ نسبيّاً ولم يمكن مع ذلك دفعها للمؤلف الفائز في السنة الماضية ويضاف إليها تعهّدٌ (تدل الدلائل على أنه مبدئي أيضاً!) برعاية نقْل الكتاب الفائز إلى العربية. وقد حظيتُ، في العامين الفائت والجاري، بشرف الانتساب إلى الهيئة المحكّمة في منح الجائزة المشار إليها. يرأس هذه الهيئة هنري لورنس صاحب كرسيّ التاريخ المعاصر للعالم العربي في الكولّيج دو فرانس. وتضمّ الهيئة قُرابةَ عشرةِ أعضاء (هم أهلُ اختصاص عربٌ وأوروبيون وعربٌ- أوروبّيون)، وقد حصل تغيير طفيف في العدد وفي الأسماء بين الدورتين الماضية والجارية. يرشّح كلٌّ من الأعضاء كتاباً واحداً من بين إصدارات السنوات الثلاث السابقة للجارية يراه ذا أهلية لنيل الجائزة. وهذه طريقة تحدّ سلفاً من عدد الأعمال المرشّحة، بخلاف تلك التي تترك للمؤلّفين الحقّ في ترشيح كتبهم ولو بتزكيةٍ من جهاتٍ أخرى. ويتيح قِصَر اللائحة هذا لأعضاء الهيئة تفحّص الكتب المرشّحة بالعناية المفروضة بعد أن يُرسَل إلى كلّ منهم، في غضون شهور تسبق موعد «الملتقيات»، ما ليس في حوزته منها. يلتئم عقد الهيئة عشيّة افتتاح «الملتقيات» إلى عشاء مداولة يجب أن ينتهي، بالتوافق أو بالتصويت، إلى اختيار الكتاب الفائز. وهو ما يعني أن كلّاً من الأعضاء باستثناء واحدٍ سيكون قد تخلّى في ختام السهرة عن مرشّحه أو سلّم بخسارته، في الأقلّ. والحالُ أن خضوع العضو لغواية كتابٍ غير الذي رشّحه ليس بالأمر المستبعَد أو النادر. وهذا خضوعٌ قد يكون للمداولة ضلعٌ فيه ولكنّه يحصل غالباً عند الاطّلاع على جملة الكتب المرشّحة، أي قبل المداولة بزمن. تعتمد الهيئة معايير عامّة في اختيار الكتب وفي تعيين الفائز بالجائزة. غير أن تنوّع الأعمال المرشّحة، فضلاً عن جودتها، يتبدّى مبعثَ حيرةٍ للمحكّمين. فإن بعض هذه الكتب لا يقارن ببعضٍ إلا افتعالاً. فكيف تستقيم المفاضلة، مثلاً، بين قاموس تاريخي للدولة العثمانية وضعه نحو من مئتي مؤلّف وأصبح أداة عمل جزيلة النفع للدارسين ودراسة فردية ضخمة في تاريخ «النخب البغدادية أيّام السلاجقة» يبدو لك مؤكّداً أنها أكلت ردحاً جسيماً من عمر المؤلّفة وأنها، بجودة التوثيق والتأليف والتحقيق، ليست من الصنف الذي يؤمل الحصول على نظير له كلّ سنة او كلّ عقد؟ وهل تدخل، فضلاً عن الجودة، جدّة العمل المنجز والمتعة المتحقّقة بقراءته عاملين مقرّرين في الاختيار؟ أم تُغَلّب الندرة وجسامة الجهد المبذول، وإن يكن العمل صعباً جافياً مرشّحاً للانحصار في أيدي قلّة من الباحثين؟ ذاك نوع الأسئلة التي تترك الفرد متردّداً ولكن تسعف في التقريب من إجاباتٍ مقبولة عنها مداولة الجماعة… يعلن رئيس الهيئة العنوان الفائز في مساء اليوم التالي للمداولة في أثناء الجلسة الافتتاحية للملتقيات. في السنة الماضية، فاز كتاب جوليان لوازو الرائع «المماليك» وفاز هذه السنة عمل فانيسا فان رنترغيم الذي سبقت الإشارة إليه «النخب البغدادية…» ولا نجاوز هنا الإشارة إلى العنوانين لأن حديث كلّ من الكتابين يطول… ثم إن «الملتقيات» لا تختصرها الجائزة بطبيعة الحال. «الملتقيات» شيء شاسع! ثلاثة أيّامٍ من المحاضرات والندوات تتزامن في قاعاتٍ عدّة من المعهد أو تتوالى في ساعات النهار. وهي تأتي مصحوبة، إلى ذلك، بمعرض من تلك التي صنَعت للمعهد شهرةً عريضة أو بأكثر من معرض. وهي أيضاً فرص لقاءٍ لا تُحصر أنواعه إذ يكون المعهد في خلالها يغلي برواح زوّاره وغدوّهم في القاعات وفي الممرّات، في المكتبة أو المتحف وفي المقهى أو المطعم سواءً بسواء. في السنة الماضية، كانت «المدينة» مداراً عامّاً للّقاءات. وبدا أن المسوّغ الأبرز لذلك رغبةٌ في دحض الصورة الشائعة التي تغلّب الصحراء والبداوة وسطاً وصيغة تاريخيين للوجود العربي. في هذه السنة، اختيرت «الأديان والسلطات» مداراً… ولا تحتاج الدواعي إلى هذا الاختيار إلى فضل بيان. وبين محاضرة يلقيها باحث وحوار بين مؤلّف وناقد وطاولة مستديرة… وبين ثورة لا تزال مفاعيلها جارية وجديد يتعلّق بالحرف العربي قبل الإسلام… وبين همومٍ متّصلة بتعليم تاريخ العالم العربي في المدارس الفرنسية وبإعداد معلميه وأخرى تتعلّق بشروط البحث في هذا التاريخ في مختلف أقطاره وأطره، إلخ.، إلخ.، تبدو مقاربة المدار العامّ المختار حرّةً ورحبة وتظهر على منابر القاعات وجوه كثيرة جدّاً (جاوز عددها المئتين هذه السنة) يعلن ظهورها تَجدّد الدراسات العربية في فرنسا وتهيئة جيلٍ لخلافة جيل مع بقاء الأسماء المعروفة قادرة على الإتيان إلى هذا الموسم وغيره بجديدها المعتبر. هذان التنوّع والإحاطة، لجهة الموضوعات والفروع والأزمنة والأجيال، إلخ.، وقد ازدادا هذه السنة عمّا كانا في الدورة الأولى، هما ما أجاز لرئيس المعهد أن يصف هذه «الملتقيات» ب»الجامعة الشعبية». هي جامعةٌ تدوم ثلاثة أيّامٍ كلّ سنة. وهي مفتوحة للعموم وأنشطتها مجانية. وما دمنا قد ذكرنا «مجّانية» الأنشطة، فلنُشر إلى التقشّف الواضح الذي يطبع الموسم برمّته. يجنَّد جهاز المعهد لخدمة «الملتقيات» وتوضع مرافقه المختلفة بتصرّفها. أما المشاركون في الموسم من محاضرين ومحكّمين، فلا يتقاضون مالاً وينزل المستقدَمون من خارج المدينة منهم في فنادق غاية في التواضع ويعطون قسائم لطعام الغداء في يوم مشاركتهم فقط، إلخ. ولما كان معظم هؤلاء قد سبق لهم أن خبروا السفر في الدرجة الأولى إلى مناسبة خليجية ما، والفندقَ ذا النجوم الخمسة (وأزْيَد!) والمكافأةَ السخيّة للورقة المقدّمة (ودَعْكَ من قيمة الجائزة حين تُمْنَح!) فهم يحسنون ملاحظة الفوارق. الذين يحضرون للكلام في معهد العالم العربي يبدون مكتفين بفرصة للمشاركة في الموسم يعدّونها قيّمة… فلا يتطلّعون، على الأرجح، إلى جزاءٍ آخر. في كلّ حالٍ، كان هذا المعهد الجليل ولا يزال، منذ نشأته، مؤسّسةً مُعْسِرة أو أن هذا ما لازم صيته. وهذه السنة زَفّت إلينا إدارةُ «الملتقيات» خبر تبرّع المجمع الملكي المغربي بقيمة الجائزة. وبدا أن عبئاً ثقيلاً قد انزاح عن كاهل الإدارة بعثورها على جهةٍ عربية نَفَحت «الملتقيات» بآلاف معدودة من اليورو جنّبت معهد العالم العربي وملتقياته الرائعة حَرَج السنة الماضية حيال الفائز! كاتب لبناني

]]>

m2pack.biz