«تاكسي» للإيراني جعفر بناهي حين يغلب جمالُ السينما قبحَ السلطة

«تاكسي» للإيراني جعفر بناهي.. حين يغلب جمالُ السينما قبحَ السلطة

«تاكسي» للإيراني جعفر بناهي.. حين يغلب جمالُ السينما قبحَ السلطة

باريس «القدس العربي»: إن استمرّ الحكم الذي أنزلته السلطات الإيرانيّة على جعفر بناهي، واستمرّ الأخير في صناعة أفلام بما يُتاح، يمكن القول بأنّنا سنتوقّع مجموعة أفلام للمخرج الإيراني الممنوع من الإخراج، وإجراء المقابلات ومغادرة الأراضي الإيرانية لعشرين عاماً، سنتوقّع أفلاماً ستساعد على تأسيس نوع جديد من السينما، تُصوّر بكاميرات ديجيتال صغيرة، بإنتاج ومونتاج منزلي، ليس فيه ممثلون محترفون ولا جينيريك بلائحة طويلة بالعاملين في الفيلم، ومن دون أن يمنع ذلك من الخروج بفيلم ممتاز، يُعرض في مهرجانات عالميّة، كما في فيلمَي «ليس هذا فيلماً» المعروض في مهرجان كان 2011، و «ستائر مغلقة» المعروض في مهرجان برلين 2013، وتحديداً كما في فيلمه الأخير المعروض حالياً في الصالات، «تاكسي»، الحائز جائزة الدب الذهبي في مهرجان برلين السينمائي هذا العام، الذي لم يحضره بناهي بسبب منعه من التحرّك خارج منزله.
وكذلك، لجعفر بناهي الآن ثلاثة أفلام يمكن أن تؤسّس، مع غيرها ربّما، لما يمكن أن يكون سينما إيرانيّة جديدة تُصنع أفلامها من دون نيل الرضى الحكومي في نظام شمولي وثيوقراطي كالنظام الإيراني، وبالحد الأدنى من الإمكانيّات التقنيّة واللوجستيّة وحدّ عال من الجماليات السينمائية. الأفلام الثلاثة المذكورة، خاصة آخرها، يمكن أن تساهم كذلك في إغناء «ثيمة» سينمائيّة عالميّة تتعدى الحدود الإيرانية، تتعلّق بصناعة الإبداع ضمن قمع وتضييقات لا تقتصر على السجون والمحاكم كأسهل وسائل استقواء الأنظمة القمعيّة على مبدعين خارجين عن طاعتها، يُنعتون بالمنشقّين.
من حيث الأسلوب، يذكّر «تاكسي» بفيلم معلّم بناهي، الإيراني عباس كياروستامي، «عشرة» (2002)، وبدرجة أقل بفيلم «طعم الكرز» (1997) لكياروستامي كذلك، كون مقاعد السيّارة مكانا أساسيّا في الفيلم. في «تاكسي» هو المكان الوحيد والمتنقّل في شوارع العاصمة طهران. ممثلون هواة يدخلون السيارة التي يقودها بناهي ويبدأون حوارات مع السائق، سنشاهد راكبة أساسيّة هي ابنة أخت بناهي التي ستشارك معظم مشاوير التاكسي، والتي ستذهب لاحقاً إلى برلين لنيل الجائزة عن خالها.
من حيث المضمون، الفيلم أقرب إلى أحد أفضل أفلام بناهي ذاته وهو «تسلّل» (2006)، الذي صُوّر في إيران ومُنع من العرض هناك، والذي كان سبباً في الحكم على بناهي بالترويج لدعاية مضادة للجمهورية الإسلامية. التهمة صحيحة، أي أن الفيلم فعلاً مؤذ للسلطات الإيرانية. كما في «تاكسي»، لا يتعرّض «تسلّل» إلى شموليّة النظام الإيراني بشكل مباشر، بل ينقل واقع هذا النظام الاجتماعي كما هو، بشاعته كما هي، إنّما من دون الإشارة المباشرة إلى ذلك، مشتغلاً على المستوى الفنّي والروائي للفيلم، فلا يكون فيلم ك «تسلّل» إلا كشفاً جميلاً لفعل قبيح، وتالياً دعاية معادية (وصادقة) للجمهوريّة الإسلامية.
في «تسلّل» تُمنع فتيات من مشاهدة مباراة لكرة القدم على المدرّجات، يُحتجز من يتم الإمساك بهن في مكان على السطح، عند نهاية المباراة يتم جرّهن ونقلهنّ إلى قسم الشرطة والاتصال بأهاليهن للقدوم لاستلامهن، وهنّ متنكّرات بملابس صبيان. في «تاكسي» تشير إحدى الراكبات، وهي محامية وصديقة لبناهي، إلى فيلم «تسلّل» في حديثها عن واقعة اعتقال فتاة إيرانيّة لحضورها مباراة كرة طائرة للرجال، اعتقال أثار فضيحة (لأنّ الفتاة تحمل جوازاً بريطانياً ربّما) قبل أشهر من الآن مذكّراً بأنّ النظام الاجتماعي في إيران هو، فوق كل مساوئه، نظام أبويّ وصائي يتحكّم فيه الرجال بالنساء كما يتحكّم رجال الدين بالمدنيّين.
لطبيعته، يقع «تاكسي» كفيلم في المنتصف ما بين الروائي والوثائقي، يختلط فيه السيناريو المكتوب بالتلقائيّة وبالواقع خلف هذا السيناريو وخلف هذه المَشاهد، وهو فيلم يمكن وصفه بلقطة «سِلْفي» طويلة كون الكاميرا مثبّتة في معظم سير الفيلم على السائق بناهي، يتصوّر مع المدينة وشوارعها، مع أهلها من الركّاب، منهم مدرّسة ومنهم شاب أخرق ومنهم محامية وناشطة، غنّي مُعتدى عليه، وفقير مُصاب في حادثة، ونساء مسنّات، وابنة أخته الطفلة، وطالب جامعي، ومهرّب أفلام ممنوعة. كأنّها عيّنة من المجتمع الإيراني، يتصوّر معهم بناهي مظهراً، بالفيلم وبظروف تصويره وبقصّة بناهي مع السلطة، تنوّع المجتمع، أهالي المدينة، من جهة، ومن جهة أخرى أحاديّة السلطة خارج كادر الفيلم، إنّما الحاضرة في كل مَشاهده، من خلف هذه المَشاهد.
ليس في الفيلم حكاية يمكن سردها، بل أجزاء من حكايات قصيرة ومختلفة لركّاب التاكسي، لا تجمعهم غير المدينة، وكاميرا بناهي المثبّته أمامه على تابلو السيّارة تنقل هذه الحكايات. والكاميرا موضوعة لتفادي أي سرقة للسيارة، كما يقول بناهي لراكبه الأوّل. كاميرا تمنع السرقة سيتم سرقتها في نهاية الفيلم، لكن الفيلم سيخرج إلى العالم. قد يُراد من ذلك الترميز لمحاولة السلطات، بتضييقها وحكمها على بناهي، سرقةَ رغبته في صناعة الأفلام، سرقة كاميراته، وأنّه أساساً يحتمي من السارق بالكاميرا، وأنّها وإن سُرقت هنالك فيلم مُنجز سيَعرض هذه السرقة وسيحمي السينما من السلطة.
والفيلم، ومن دون الإشارة فيه بكلمة واحدة إلى ذلك، وثيقة سينمائية عالميّة ومُتقنة تدين كل أشكال القمع على كل أشكال الإبداع.
سليم البيك

m2pack.biz