تحولات شكل الرسالة في رواية «366» لأمير تاج السر

تحولات شكل الرسالة في رواية «366» لأمير تاج السر

[caption align="aligncenter"]تحولات شكل الرسالة في رواية  «366» لأمير تاج السرتحولات شكل الرسالة في رواية «366» لأمير تاج السر[/caption]

عندما اعتبر الناقد الروسي ميخائيل باختين الرواية من أكثر الأشكال التعبيرية انفتاحا على الأساليب واللغات والأصوات والأشكال، فقد كان يُنظَر لأهم محددات الجنس الروائي. ويشمل الانفتاح، ذاكرة الأشكال القديمة، وأفق الذاكرة المستقبلي. لذا، عُرفت الرواية بالشكل المُتسامح مع باقي الأشكال، لكونها تسمح باحتواء مختلف الخطابات والتعبيرات، لكن ضمن شرط التمثل السياقي الروائي، الذي يجعل الرواية تتشرَب هذه الأشكال، وتعمل على تحويلها، حتى تصبح مكونا روائيا، لكنها تظل حاضنة لتاريخ ذاكرتها النصية. لعل هذا البعد الانفتاحي للرواية، هو الذي يُؤهلها أسلوبيا ولغويا، لكي تظل من أكثر الأجناس الأدبية قدرة على تشخيص التحولات الاجتماعية والمفاهيمية، بفعل حريتها في استثمار الخطابات والأساليب وأشكال التبليغ الرمزي، والتعبير الإيحائي. ولعلنا بتنا، نلاحظ اهتمام الرواية العربية بهذا البعد الانفتاحي، واعتمادها على أشكال في الكتابة، من أجل بناء الحكاية. يحضر شكل الرسالة بكل مقوماته، ومنطق تواصله ضمن هذا الاهتمام، غير أن التخييل الروائي، يتصرف في نظامه، ويجعل منه تقنية سردية للشكل الروائي. نلتقي في هذا الصدد برواية « 366»(2013) للروائي أمير تاج السر، التي يقوم نظامها على صيغة الرسالة في تشخيص حكاية السارد التي سيكتبها لمعشوقته/أسماء، من دون أن تتوصل بها. يسرد السارد في الرسالة/الرواية تاريخ عشقه لها، ويُوثَق زمن بحثه عنها، ويُدوَن الأمكنة التي سافر فيها، بحثا عن مسكنها، ويستحضر مختلف الحالات التي مر منها، وهو يبحث عنها، في الأحاديث والصور والأمكنة والأخبار. تعتمد الكتابة السردية في رواية «366»، على صيغة الرسالة، التي تحولت بقوة حضورها إلى تقنية في الكتابة الروائية في هذا النص، وانعكست على هيمنة ضميري المتكلم المفرد/ السارد – المُرسِل، وضمير المُخاطب أنتِ الذي يُحدد المعشوقة/المُرسل إليها «أسماء». كما استعانت تقنية الرسالة بصيغتي المذكرات واليوميات التي تظهر في توثيق اليوم، والتاريخ والحدث/الحالة، ولهذا، حضر الزمن بقوة، ويظهر ابتداء من عنوان الرواية «366»، ونهاية النص، «اليوم هو الذكرى الأولى والأخيرة لتعلقي بك» (ص204). تحكمت تقنية الرسالة في طبيعة نمو السرد، الذي لا يعتمد سير الأحداث، ونضجها وتحولها سرديا، بقدر ما يتأسس على نمو حالة العشق سرديا، وعلى مسار البحث عن المعشوقة. طبعت هذه الصيغة أجواء العالم المحكي، فجعلت اللغة ذاتية، تُشخص الحالة، أكثر من الحدث، وتأتي مشبعة بإيقاع الحالة، أكثر من إيقاع الأحداث. امتلأت الرواية بالشخصيات، غير أن حضورها خضع للسارد المُرسل، فجاءت مسرودة، ومحكيا عنها في أغلب مشاهد حضورها. وهذا يتشخص بشكل دلالي في الحضور القوي سرديا للمعشوقة أسماء، التي تحضر باعتبارها ضمير المُخاطب الذي بوجوده يتحقق السرد، غير أنها كشخصية روائية، لا تحضر فعلا وملفوظا، أو حدثا يُطور السرد، بسرده ولغته وموقفه، وإنما حالة ينمو بها السرد، ويتحقَق. لهذا تعد الشخصيات مجرد وسائط لوصول السارد إلى حلمه/أسماء. وكل شخصية تنتهي وساطتها، بأن تقدم معلومة، أو خبرا، أو تفك لغزا أو وهما، أو تعيد ترتيب فكرة، يلفُظها السرد ويُخرجها من مساحته، لكن يحدث ذلك بعد أن تكون قد أشبعت السرد ببعض التوازنات التي تجعل مشروع الرسالة/الرواية مستمرا، ولذا، تتحول إلى ذاكرة نصية، ومرجع للحكاية المسرودة، يعود إليها السارد، كلما تطلب الأمر ذلك. ولأن تقنية الرسالة تتم بين مُرسل مُدرك لأفق الرسالة، ويعيش العشق موضوعا للرسالة، وبين المُرسل إليه، الذات الأخرى التي لا تُدرك من الأمر شيئا، ولا تحضر إلا باعتبارها حالة وفكرة ورغبة لدى المُرسل، فإن ضمير المتكلم يتحقق بشكل كبير، وتظهر علاماته ومظاهره بشكل ملموس، وتهيمن حياته بكل تفاصيلها في الرسالة، وتصوراته ورؤاه، أكثر من ضمير المُخاطب، مما يُحول الرسالة إلى حوار ذاتي، أو مونولوج داخلي، لكن بمستوى فني مختلف عن الصيغ المتعارف عليها في تقنية الحوار الداخلي، في حين يبقى ضمير المُخاطب حاضرا من أجل خلق التوازن الممكن في الرسالة. وتظهر مظاهر الاختلاف في هيمنة الوصف في الرواية، الذي يُحيل – بشكل قوي – على حركية المُرسل إليه، وانتقالاته المستمرة بين الأمكنة، بحثا عن الذات المُرسل إليها/أسماء، المعشوقة في غيابها. تجعل الكتابة الروائية في «366» من الوصف، عنصرا سرديا بنائيا، إذ عبره نقف عند بعض التمثلات لبعض المفاهيم والتصورات. فالسارد يعتمد في السير نحو معشوقته بحثا عنها، على وصف أمكنة العبور إليها. وهو في هذا، يتبنى وصف الأمكنة والأزمنة والأمزجة والتقاليد والأعراف، من خلال السلوك الاجتماعي. نلتقي – في هذا المستوى- بما يسمى ب»اجتماعية المكان». كما نلتقي بالتدقيق في الوصف، واعتماد الجزئيات، والتفاصيل الصغيرة للحالات والأمزجة والأمكنة والخطابات. يُشخص ذلك، حالة السارد/المُرسل وهو يبحث عن معشوقته في الأمكنة، وفي علاقات الناس مع بعضهم، وفي الأحياء والبيوت، وفي الذهنيات الاجتماعية والتصورات السياسية والمعتقدات الدينية. بهذا الحضور الوظيفي للوصف، في علاقة تفاعلية مع حضور ذات المُرسل/السارد، العاشق، تتراجع الذات المُرسل إليها/ أسماء/المحبوبة في السرد، لصالح الأمكنة والمفاهيم التي يسافر فيها السارد بحثا عنها. يتصرَف السرد الروائي في منطق الرسالة، عندما يُفرغها من بُعدها الأفقي، المُحدد في المُرسل إليه، من خلال تحقيق التواصل المباشر، وجعلها عمودية الشكل، تنفتح- أكثر- على تعددية الذوات المُرسل إليها. يحدث ذلك، باعتماد منطق السخرية، الذي يدخل مجال النص، فتحدث علاقات اصطدام بين الأمكنة والفئات الاجتماعية، والخطابات السياسية من خلال عملية انتقال السارد بحثا عن معشوقته من فضائه/حيه الاجتماعي الفقير إلى الفضاء/الحي الراقي الذي من المفترض أنه مكان إقامة «أسماء». يتخلل منطق السخرية، مشاهد الحياة الاجتماعية والسياسية والدينية المسرودة، ويصبح هذا المنطق لغة تقرأ بها الرواية هذه المشاهد. تحقق الرواية مستوى فنيا في الترميز الذي ساهم في تحويل حكاية رسالة العشق، وفكرة البحث عن المعشوقة إلى وسيط لحكاية رسائل أخرى عن التفاوت الطبقي الاجتماعي، والتسلط الطبقي، والفساد السياسي، وتناقض الخطاب الديني، مما جعل من رواية «366»، محكيا ذاتيا بإيقاع روائي. ويمكن اعتبار طبيعة الكتابة السردية في هذه الرواية، تطورا فنيا للمحكي الذاتي، الذي بدأت تعرفه الرواية العربية منذ عقدين من الزمن تقريبا، ولكنه في رواية أمير تاج السر، يتم بصيغة ضمنية، تختفي وراء هيمنة ضمير المُخاطب، إذ تصبح عملية حكي تاريخ الذات، وتأمل أفكارها وتصوراتها، ووصف أمكنتها وأزمنتها، هي الأفق في وعي الكتابة. إنه حكي الذات للذات، لكن عبر وسيط الآخر/المرأة، من خلال حالة العشق. يتم المرور إلى الذات، وفق حالة رومانسية، لكن مُركَبة بطريقة كيميائية، «أردتها أن تكون رسالة ثورية، هائجة، حرة، كاشفة» (ص9). حضرت الرسالة في رواية أمير تاج السر موضوعا لحكاية العشق، لكن السرد حولها إلى تقنية سردية، وجعلها تغادر سياقها التواصلي المباشر. كما حضرت المرأة/أسماء في الحكاية موضوعا جوهريا، ومُرسلا إليه، لا تستقيم الرسالة/الحكاية بدونه، غير أن السرد، تجاوزها، وجعلها مجرد وسيط ، للانتصار للمُرسل إليه، وإلى خطابه المنفتح على رسائل، ومرسل إليهم. إن قدرة التعبير الروائي على احتواء الأشكال التعبيرية، والتصرف فيها، يجعل من الرواية معرفة أدبية، تجدد حياتها الأسلوبية والبنائية من أجل مرافقة التحولات الاجتماعية. كاتبة مغربية زهور كرام

]]>

m2pack.biz