تمثيل الهوية والذاكرة في «والد وما ولد» للمغربي أحمد التوفيق

تمثيل الهوية والذاكرة في «والد وما ولد» للمغربي أحمد التوفيق

[caption align="aligncenter"]تمثيل الهوية والذاكرة في «والد وما ولد» للمغربي أحمد التوفيقتمثيل الهوية والذاكرة في «والد وما ولد» للمغربي أحمد التوفيق[/caption]

لا نريد في هذا المقال الموجز الإحاطة بكل المعضلات النظرية المتعلقة بمفهومي التمثيل والهوية، فإذا أسعفنا الحظ سنصدر كتابا يتناول الإشكالات والأسس الخاصة بهما، وحسبنا أن نورد- هنا- الوجهة التي نسلكها في توظيفهما من أجل معالجتهما في نص «والد وما ولد» لأحمد توفيق. فالتمثيل الذي سنشغله- هنا- يتعلق بالمعنى الذي يستحضر بوساطته الشيء أو الموضوع في حالة غيابه، بما يعنيه ذلك من أطر عامة تحدده في علاقتها بالتجربة الخاصة لكل من الباث والمتلقي، أما الهوية، فإننا لا نرى إليها من الزاوية الموضوعاتية، أو التناول الفلسفي المحض، وإنما من زاوية كونها ذات صلة بالفعل في علاقته بذات تسعى إلى أن تبني ماهيتها، وفق مَنْزَعَيْن: إما بالتطابق مع الموجود هنا (الدزاين)، أو بخرقه بحثا عن أفق آخر للكينونة خارج السموت والسُّنَن المهيأة من قبل المجتمع، لكن ينبغي تمثيل الهوية بموجب المنزعين المذكورين انطلاقا من موضعة الغياب في زمان الحضور، وفق تطلبات صيرورة سردية معينة. ومن ثمة لن يكون تمثيل الهوية نوعا من الإسقاط الفلسفي، أو الموضوعاتي على النص، بل مستنبطا من التكوين التخييلي له. كيف يمكن معالجة تمثيل الهوية بوساطة الذاكرة في نص «والد وما ولد» للروائي أحمد توفيق؟ تُستدعى الأنا نصيا بوصفها متعينة في الماضي (الطفولة) انطلاقا من حاضر تتحكم فيه آليات الاستدعاء التي تفرضها الكتابة (التعبير، والتنظيم، والتثبيت الغرافي)، ويُشرطه وضع اعتباري خاص (منصب الوزير). كما تُستدعى هذه الأنا انطلاقا من ضرورات أُنطولوجية، وإشكالات تخص فعل الكتابة ذاتَه؛ إذ يتخلق السؤال المضني: كيف يمكن التصرف بالمخلفات والبقايا المرسَّخة في الذاكرة بوصفها معالمَ كبرى، لا تفاصيل دقيقة. فلا يمكن فهم تمثيل الهوية – بموجب هذا الأمر- بوصفها نتاجَ عملية استدعاء من جهة، وسؤالا عمَّ كانته «الأنا» من جهة أخرى انطلاقا مما هي عليه الآن فحسب. ولكن ينبغي تمرير كل ذلك أيضا من ضرورات الكتابة، والانتماء إلى تجربتها (الروائي)؛ فهذا الاتصاف الأخير يُشرط تمثيل الهوية في هذا النص. وحتى نتبين ذلك لا بد من معالجة الموضوع وفق ثلاثة مظاهر جمالية صرف: المظهر الأول: «فعل الاستعادة بوصفه محددا» يتحدد هذا المظهر في الكيفية التي يُمثَّل بوساطتها فعلُ الذاكرة ذاتَه عبر عملية استدعاء البقايا، وتصير الهوية منتجة- هنا- بفعل تمثيل صورة المُستعيد (من يستعيد المنصرم) الذي يتماثل هوياتيا مع فعل الاستعادة، لا مع ما يُستعاد فحسب؛ إذ يتحدد تمثيل هوية «الأنا» انطلاقا من الشكل الذي يحدث وفقه فعل التذكّر، ومن ثمة ينسحب كل تفخيم للذاكرة، وكل تشذيب لها، على هوية الذات المُستعيدة، فينتقل كل تأثير يمس هذه الأخيرة إلى الذات المُستعادة. فالهوية- هنا- هي نتاج هذا الفعل المتبادل من التأثير بين نوعي الذات، ولذلك يصعب الحديث عن تملك الهوية من قبل ذات واحدة منهما. وهنا يمكن فهم مسألة صفاء الهوية بمدى صفاء فعل الاستعادة نفسه، أو التباسها أيضا. وهكذا يمكن الجزم بأن الهوية لا تتعلق بذات من حيث هي كيان مُمثَّل، بقدر ما تتعلق بفعل الاستعادة وشكله، أو بتمثيل الذات من خلال هوية فعل الاستعادة؛ أي الذاكرة بكل اتصافاتها. فتمثيل هوية «الأنا في «والد وما ولد» لا يُستنتج من تلك الأنا التي نصاحبها في ماضيها الطفولي عبر النص، وإنما من فعل الكتابة الذي تمارسه الأنا الكاتبة، وهكذا يُعَدُّ تمثيل الهوية في النص ماثلا في الفعل الخفي الذي يتأسس على جدلية الصفاء والالتباس أثناء الكتابة، ومعنى ذلك أن الأمر لا يتعلق بقول ما جرى بالفعل في الماضي (الاستعادة)، وإنما بكيف يمكن إحداث نوع من المواءمة بين ما جرى ووضع الذات في الحاضر، وتطلباتِ نوعٍ من الكتابة له شروطه (فعل الاستعادة). فالكاتب- وهو يسعى إلى تمثيل نفسه في الماضي- كان يفعل ذلك انطلاقا من تمثيل وضعه بوصفه منتميا إلى حاضر الكتابة. وهذا الوضع يشرط فعل الاستعادة؛ مما ينسحب على تمثيل هوية الأنا. المظهر الثاني: «مفهوم المسافة بوصفه محددا» ونقصد بهذا المظهر تمثيل الأنا- الذات من خلال المسافة بين آنِ الكتابة (و/ أو الاستعادة) وزمان الطفولة والنشأة؛ بحيث يتأسس تمثيل الهوية بوصفه نتاجا لقلب المعادلة التي يُنظر فيها إلى الماضي انطلاقا من مواصفات الحاضر. والمقصود بهذا القلب أن نَعُدَّ الحاضر كامنا في الماضي. وزيادة في المعنى نقول إن الذات- بوصفها محددة المصير في الحاضر- ترى إلى هذا المصير كونه قد حُدِّد في الماضي. وما الحاضر سوى استجابة لهذا التحديد فقط، والذي له هيئة قدر. ويُظهر النص تمثيلا للهوية بهذا الاتصاف- بفعل قلب العلاقة الزمنية: «الماضي يقرأ من الحاضر»- انطلاقا من استشعار «الأنا» منذ الطفولة كونَها منذورة لمهمة جسيمة ملقاة على عاتقها؛ ومن ثمة تكون الهوية ممررة من خلال التصديق؛ أي عدم تكذيب الحاضر للماضي، وذلك بموجب التحقق الذي يفيد تطابق الاستشعار الذي له طابع الحدس التنبؤي. وتترتب على هذا التطابق نتيجة مهمة على صعيد تمثيل الهوية؛ بحيث تحدد بكونها سيولة متصفة بالاستمرار؛ أي عدم التقطع. ولفهم هذا الأمر ينبغي أن نتنبه إلى أن الذات تستعيد نفسها انطلاقا من استدعاء الوسط الأسري (البيت المخزني: الأب من أعوان المخزن في عهد الاستعمار)، ومن ثمة يُعَدُّ تحقُّق وضع الذات المتميِّز في الحاضر تكرارا يُمثِّل استمرار ما هو سلالي؛ ولذلك ينبغي أن نرى إلى تمثيل الهوية – هنا- بوصفها تحققا له صبغة تراكم- من زاوية الاستمرار السلالي- للرأسمال الرمزي العائلي (بورديو). ومن ثمة ينبغي فهم هذه التراكم في إطار التماثل مع التطلع الشخصي، ومع المصير المحفور في تاريخ العائلة. كما ينبغي فهم تمثيل الهوية بموجب انتفاء القطعية الزمنية بين الأصل والفرع الماثل في التعين التاريخي للأسرة. لكن هذا التعين المستمر يتخذ هيئة ارتقاء؛ ومن ثمة لا تكون المسافة الزمنية تعبيرا عن تباعد، وإنما عن اقتراب من الأصل، لا بوصفه عرقا، وإنما بوصفه تعينا اجتماعيا. المظهر الثالث: «مفهوم الملء بوصفه محددا» لا تُمثَّل الهوية انطلاقا من المظهرين السابقين: فعل الاستعادة، والمسافة القائمة بما تستدعيه من قلب زمني، والاستمرار بما يعنيه من استجابة التحقق لمواصلة إرث سلالي، وإنما تُمثَّل أيضا من خلال نقص في الأطر التمثيلية للماضي. وقبل التدليل على هذه المسألة في النص، لا بأس من أن نفهم ما المقصود بالأطر التمثيلية؛ فهي تعني- هنا- جل المؤشرات (و/ او الخاصيات العامة) التي تحيل إلى مشترك حياة بين كل من ينتمون إلى سياق ثقافي معين في حقبة معينة من تاريخ بلد معين. وهنا لا يستعاد الماضي، أو أي حدث منتم إليه، إلا من خلال مواصفات عامة (نوع البناء، شكل اللباس، شكل الاحتفالات…الخ) تتسم دائما بنقص في التفاصيل الدقيقة الخاصة التي تجعلها متفردة ومختلفة، وتخص هذا الفرد دون غيره، وزمنا دون غيره (الألوان، المواقيت بدقة متناهية، الأشياء كما هي في تموضعها زمنيا…الخ)؛ ولذلك يجد كل تمثيل للهوية- بوساطة الذاكرة- نفسه في حاجة إلى ملء أطر التمثيل العامة الشكلية بما يجعلها مميزة، وقابلة لتحقيق الفرادة التي يتطلبها كل تخييل، وتُنتج التصديق اللازم. هكذا يضطر نص «والد وما ولد»- في محاولته تمثيل هوية الذات بوساطة الذاكرة- إلى تمرير مخلفات الماضي (و/ او البقايا) من خلال ملء أطرها العامة بما يجعلها مميزة. ويتحقق هذا الملء بفعل اتصافيْن متضافرين، ولكل منهما علاقة برمزية وضع الذات الأنطولوجي في الحاضر: اتصاف المؤرخ المكرَّس معرفيا، واتصاف الوزير المكرَّس سياسيا. فبموجب الاتصاف الأول تتدخل المعرفة التاريخية بكونها وعيا لاحقا على الماضي (الطفولة) في ملء ثغرات أطر الطفولة الماضية (الوصف الانثربولوجي للقبيلة/ الوصف الانثربولوجي لطقس الختان)، وينبغي بموجب الاتصاف الثاني أن تملأ أطر تمثيل الماضي بما يناسب رفعة الحاضر (الوضع الاعتباري للوزير). ويتأسس هذا الملء- بموجب الاتصاف الثاني- على ضرورة إنتاج نوع من المصالحة بين تطلبات السمت المخزني، وتطلبات السمت الوطني. هذه المصالحة ليست معنية بخلق مواءمة بين الماضي والحاضر فحسب، وإنما بين الماضي ونفسه أيضا انطلاقا من ضرورات حاضر لا يتعين في لحظة التتويج فحسب، وإنما أيضا في لحظات سابقة عليه، وعملت على التمهيد له. لا تُمثَّل الهوية- إذن- في هذا النص إلا بمراعاة إشكال تمثيل الفراغات التي تتخلل صيرورة الماضي، بما يعنيه ذلك من ضرورة ملئها، بما يستجلب الرضا في الحاضر. بيد أننا ينبغي أن ننظر إلى عملية الملء هاته من زاوية ما يضادها أيضا؛ أي عملية الإفراغ بما تفيده من تنقية وتشذيب يسمحان بإضفاء الانسجام على البقايا المستدعاة؛ فتمثيل هوية الذات كان يتحدد بفعل المحو الذي تمارسه الكتابة تجاه ما لا يتلاءم مع عملية الملء التي كانت تؤول إلى الكتابة من حاضر الذات، خاصة منها تلك التي تتعلق بالوضع الاعتباري (وضع الوزير)، فلا بد من أن تُستبعد كل العناصر المُربكة التي تضرُّ بتمثيل النموذجي، والتي من شأنها أن تُفسد العلاقة بالحاضر المتوَّج رمزيا. ويأتي الاتصاف الثاني (وضع المؤرخ) ليدعم عملية الإفراغ بما يجعل الهوية المستعادة تتسم بصفاء معين، لا تجاه ما تستعيده، وإنما تجاه تناسب الحاضر مع الماضي بوصفه استمرارا. ويحدث الإفراغ بموجب تعويض المُفرَغ- المستبعد بوساطة معرفة تاريخية تتوزع بين الاندراج داخل النص، والوجود في الهوامش بوصفها مجالا فائضا عن النص يتكفل بإنارة الملتبس، أو غير الشائع والمعروف. فهذه المعرفة لا تقف عند حدود تمثيل السياق الذي تكونت بموجبه هوية الأنا، بقدر ما هي موجهة نحو تملك زمن ملتبس، وتحديدِ علاقة انتماء به، لا بوساطة تمثيل فعلٍ في التاريخ، وإنما بوساطة تمثيل فعل معرفة به. وهناك فرق بين الاثنين. أكاديمي وأديب مغربي عبد الرحيم جيران

]]>

m2pack.biz