جدل بريطاني حول مستقبل سياسة التيسير الكمي

جدل بريطاني حول مستقبل سياسة التيسير الكمي

جدل بريطاني حول مستقبل سياسة التيسير الكمي

يوما بعد آخر يتزايد حجم الضغط الذي يتعرض له مارك كارني محافظ بنك إنجلترا “المركزي البريطاني”، فأزمة الرجل المسؤول عن صنع السياسة المالية لبريطانيا، لا تقف عند حدود تراجع سعر صرف الاسترليني، أو انخفاض معدلات النمو، أو حتى ارتفاع معدل التضخم، وسط توقعات مقلقة بأن يشهد العام المقبل زيادة مفرطة في معدل التضخم ليصل إلى 4 في المائة.
وتفاقمت مشاكل كارني بشدة عقب انحياز الناخب البريطاني إلى خيار الخروج من الاتحاد الأوروبي، ويمكن اختصارها في سعيه للبحث عن حلول اقتصادية للمرحلة المقبلة، إذ تشير أغلب التحليلات إلى أن بريطانيا لربما ستشهد أوضاعا اقتصادية صعبة مع انطلاق مفاوضات الانسحاب من الاتحاد، والمتوقع أن تبدأ بين الأطراف المعنية في شهر آذار (مارس) من العام المقبل.
وتصل سياسة التحفيز الكمي المتبعة حاليا في بريطانيا إلى نحو 60 مليار استرليني لشراء السندات الحكومية، و10 مليار لشراء سندات من الشركات، ولكن السؤال الذي يحيط بها يتمحور حول مدى إمكانية مواصلتها في حالة الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، وسط دعوات وضغوط متصاعدة على محافظ بنك إنجلترا، بأن الوقت حان للتخلي عنها. وتبدو معضلة كارني الراهنة أن عليه الإسراع باتخاذ قرارا بهذا الشأن في أقرب فرصة ممكنة، وذلك قبل انطلاق المفاوضات مع الاتحاد الأوروبي، حتى يتهيأ رجال الأعمال البريطانيين للتعامل مع الأوضاع التي ستترتب على قرار بنك إنجلترا، تجاه سياسة التيسير الكمي سواء بإلغائها أو الإبقاء عليها.
وأوضح ل “الاقتصادية”، الدكتور كلارك ميلارد أستاذ الاقتصاد البريطاني، أن الوضع ازداد تعقيدا أخيرا بشأن ما الذي يجب فعله تجاه سياسة التيسير الكمي البريطانية، فأغلب التكهنات والدعوات، خاصة من قبل السياسيين، وفي مقدمتهم رئيسة الوزراء تيريزا ماي، تطالب كارني بسرعة التخلص من سياسة التيسير الكمي، التي تعتبرها ماي وعديد من القوى السياسية المحافظة عملية طباعة لمزيد من الأوراق النقدية، لشراء السندات الحكومية مما ينعكس سلبا على الطبقات الفقيرة بارتفاع الأسعار.
لكن دعوات الساسة البريطانيين المطالبة بالتخلص من سياسة التيسير الكمي، تواجه بدفاع من قبل الداعمين لها، عما أفرزته تلك السياسة من نتائج إيجابية على الاقتصاد البريطاني.
وتشير ل “الاقتصادية”، فينسا مادلي الباحثة في بنك إنجلترا إلى أن الاحتمال السائد أن تواصل المملكة المتحدة سياسة التيسير الكمي لبعض الوقت، فملامح المشهد الاقتصادي لم تتضح بعد، وربما تزداد تعقيدا خلال فترة مفاوضات الانسحاب من الكتلة الأوروبية. وتقر مادلي بأن سياسة التيسير الكمي انتابتها بعض المشاكل، لكن رغم ما انتابها من عورات، إلا أنها نجحت في تحقيق منافع اقتصادية كبيرة لبريطانيا، فهي أحد الأدوات الرئيسية لسياسة مالية قادرة على إخراج بريطانيا من أزمتها الاقتصادية. وتقول مادلي إن بنك إنجلترا ليس حالة استثنائية في هذا المجال، فاليابان كانت أول من تبنى تلك السياسة عام 199 قبل سنوات من اندلاع الأزمة الاقتصادية، ثم تبعتها الولايات المتحدة عام 2008، وبنك إنجلترا بعدها بعام، ثم أخيرا الاتحاد الأوروبي في عام 2015.
وحول طبيعة المنافع المحققة من تلك السياسة، تؤكد مادلي أن تلك السياسة أسهمت بشكل كبير في خفض تكلفة الإقراض الخارجي سواء بالنسبة للحكومة البريطانية أو للشركات، وهذا أمر شديد الأهمية في أوقات الأزمات الاقتصادية، إذ غالبا ما يتردد المقرضون في منح البلدان أو الشركات المأزومة اقتصاديا قروضا أو أن يقبلوا بمنحها القروض ولكن بأسعار فائدة كبيرة، كما أن التيسير الكمي لعب دورا مهما وملحوظا في رفع أسعار الأسهم في بورصة لندن، ما شجع على استقطاب المزيد من رؤوس الأموال الدولية، فيما أسهمت بشكل كبير في دعم الصادرات عن طريق خفض سعر صرف العملة البريطانية. إلا أن البروفيسور بيتر يورك رئيس قسم الاقتصاد سابقا في جامعة ليدز، يعتبر أن الجدل الدائر حول سياسة التيسير الكمي ومستقبلها، ليس أكثر من القمة البارزة من جبل الجليد المختفي، وسط صراع حقيقي بين كبار السياسيين في الحكومة وحزب المحافظين من جانب، وكبار المسؤولين في بنك إنجلترا وتحديدا مارك كارني محافظ البنك من جانب آخر. وأوضح يورك ل “الاقتصادية”، أنه منذ نحو عقدين من الزمان والسياسة المالية البريطانية تحدد بشكل مستقل من قبل بنك إنجلترا، وفقا للأهداف التي تحددها الحكومة، ومن ثم فإن الحكومة لا يوجد لها سيطرة مباشرة على الآليات التي يتبنها محافظ البنك ولجنة السياسات المالية، ولكن من الواضح أن ذلك بات محل اعتراض من قبل عدد من الوزراء في حكومة المحافظين، وبعض الأعضاء المتنفذين في الحزب الحاكم الذين يدعمون بقوة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وهو يسعون من خلال تكثيف النقد لسياسة التيسير الكمي استعادة السيطرة على بنك إنجلترا، وتحديد الآليات المالية التي يجب أن يتبعها، لأنهم إذا ما نجحوا في الإطاحة بسياسة التيسير الكمي، فإن الخطوة التالية التلقائية هي زيادة أسعار الفائدة، ومن خلال تحريكهم لأسعار الفائدة، يمكنه التأثير في الرأي العام بما يحقق مصالحهم الانتخابية بصرف النظر عن التأثير الاقتصادي لذلك. ويعتبر بعض أنصار سياسة التيسير الكمي، أن جميع المؤشرات الاقتصادية تدعو إلى تعزيز تلك السياسة مستقبلا، خاصة إذ ما تم خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
وأشار ل “الاقتصادية”، جيمس لنجولي الاستشاري في بنك إنجلترا، إلى أنه من الخطر الشديد التخلي عن سياسة التيسير الكمي، في وقت فقد فيه الاسترليني نحو خمس قيمته في مواجهة الدولار منذ استفتاء الاتحاد الأوروبي، وهناك مخاوف على وضع لندن المالي، خاصة إثر إعراب بعض المصارف عن رغبتها في الانسحاب من المدينة، وهذا يحتمل أن ينعكس سلبا على الاستثمارات، ولهذا فنحن في حاجة إلى سياسة التيسير الكمي، حتى ينجلي الغموض الراهن بشأن مستقبل الاقتصاد البريطاني، فتلك السياسة أثبتت نجاعتها عندما يكون الاقتصاد الوطني ضعيفا ومنخفض النمو، كما هو وضع الاقتصاد الوطني حاليا.

m2pack.biz