«حرث السماء» للمخرج المكسيكي هوراسيو أكالا تحريض على اكتشاف شغف الحياة

«حرث السماء» للمخرج المكسيكي هوراسيو أكالا.. تحريض على اكتشاف شغف الحياة

«حرث السماء» للمخرج المكسيكي هوراسيو أكالا.. تحريض على اكتشاف شغف الحياة

الشغف
من المؤكد أن الهدف من الحياة لا يقتصر فقط على ما يبدو لنا من مظاهرها وفقط، ولكن هناك أهداف أسمى، أجمل وأمتع من أن يحيا الإنسان مثله كمثل الكثيرين ممن يسيرون على وجه البسيطة، من دون هدف، من دون غاية والأهم من دون «شغف». فالشغف هو ذاك الهاجس أو الدافع الذي يظل يطارد الإنسان كي يكتشف ما بداخله من قدرات ومقومات تجعل منه إنساناً مختلفاً، إنساناً ناجحاً، فالشغف ببساطة هو سر استمتاع المرء بحياته.
يعتبر الفيلم الوثائقي»حرث السماء» للمخرج المكسيكي هوراسيو أكالا فيلماً مُحرضاً ومُلهماً في الوقت نفسه، فهو يُحرض كل من يُشاهده على اكتشاف شغف حياته، شغفه تجاه ما يريد فعلاً أن يفعله، بل ويتفوق في فعله ومُلهماً لأنه من الممكن أن يتلمس المُشاهد من خلال قصص أبطال العمل أولى خطواته لتحقيق حلم حياته وشغفه. الفيلم مرآة تعكس لمُشاهده ما لا يراه وما يجب أن يراه ويبحث عنه.
يُلقي الفيلم الضوء على تجارب أداء «سيرك لو سوليه» بفرنسا لاختيار مؤدين جدد للسيرك ليغوص الفيلم داخل مجموعة حكايا اختارها المخرج بعناية شديدة تتمتع بالتنوع والتميز الإنساني والحركي والبدني، ولقد تم تصوير الفيلم في إحدى عشرة دولة مختلفة بثلاث لغات مختلفة.
الاختلاف
يندرج فيلم «حرث السماء» تحت فئة الأفلام الوثائقية، ولكن ومنذ الوهلة الأولى يمكنك أن تشعر بمدى اختلافه عن المفهوم التقليدي والشائع للفيلم الوثائقي، من وجود عدد معين من الضيوف أو المتحدثين في أماكن تتكرر روتينياً في أحجام لقطات ثابتة يغلب عليها الحجم المتوسط، ويظل هؤلاء الضيوف يروون حكاياهم ويسردون ذكرياتهم لتلك الآلة الصماء التي أمامهم برتابة شديدة حتى إن كان حجم المعلومات التي يلقونها تفوق ما يمكن العثور عليه من خلال عشرات الكتب والمجلدات.
البداية
يبدأ الفيلم بجملتين من أهم الجمل التي جاءت في الفيلم على ألسنة أبطاله أولاهما «أنه حتى عشرين عاماً مضت كان العمل في السيرك قاصراً فقط على أبناء وأقارب العاملين بالسيرك»، وهي جملة جيدة لجذب انتباه المشاهد من حيث اهتمامه بالذي حدث بعد ذلك ليتأخر المخرج وعن عمد عن الإجابة على هذا التساؤل حتى منتصف الفيلم تقريبا، وهو النهج الذي اتبعه على مدار الفيلم، فكان يعرض لنا بداية حكاية أحد أفراد السيرك ثم لا يكملها ليذهب بنا إلى حكاية أخرى أيضاً لا يكملها حتى نقترب من نهاية الفيلم لينسج لنا في تتابع سردي بصري مُحكم نهايات الحكايا لتتشابك – لا إراديا – لدى المشاهد عناصر الحكاية الأساسية للفيلم، مع نهايات حكايا أبطال الفيلم ليصل المشاهد إلى خط النهاية أخيرا مُحملاً بقدرٍ هائلٍ من التساؤلات الجوهرية الشخصية التي يفرضها عقله عليه عقب انتهاء مشاهدته للفيلم. ويُعد هذا في حد ذاته قيمة مضافة للفيلم، فالفيلم الجيد هو الذي يظل مع مشاهده وجدانياً، عقلياً وعاطفياً ويظل يُمتعه ويُثير بداخله التساؤلات كلما تذكره.
أما الجملة الثانية «نظرياً أي شخص من الممكن أن يكون فنان سيرك»، فهذه الجملة أيضاً من نوعية الجملة السابقة التي تطرح في ذهن المُتلقي العديد من التساؤلات على شاكلة، إذن ما الذي يُميز فنان سيرك عن آخر وما الذي يجعل فناني السيرك مختلفين عن غيرهم، هل هي قدرتهم على التعامل والتحكم بأجسادهم، أم هل هي مداومتهم على التدرب، أم هي قدرتهم على الإبداع من خلال حجم التجديد والاختلاف لفقراتهم، ليظل ذهن المشاهد ومنذ اللحظات الأولى مُنشغلاً بالسيرك وفنونه وعوالم أعضائه.
التحريض البصري
حرض المخرج المشاهد بصريا على البحث عن شغفه الخاص وحلمه الخاص، من خلال سرد بصري راق ورائع ومختلف عن مجموعة حكايات لمجموعة من البشر مختلفين في اللغة، في الشكل، في بلد الإقامة، في مستوى التعليم في ما يفرقهم أكثر بكثير مما يجمعهم ولكن ما يجمعهم أهم بكثير مما يفرقهم ألا وهو الشغف بحب السيرك وبأداء فنون أدائية جديدة ومبتكرة تندرج تحت فن السيرك.
ثم كان التحريض أيضاً من خلال أبطال العمل فيقول أحد أبطال العمل ما دفعه لابتكار فقرة أدائية جديدة وهي فقرة الرقص داخل العجلة، هو حلمه بالطيران، وأكد على أن الإنسان من الممكن أن يحقق حلمه عبر صور مختلفة عن الصور والأشكال التقليدية فهو يشعر وهو يؤدي فقرته داخل العجلة بأنه يطير. وقال أيضاً بأن شغف الإنسان بما يفعل يجعله يتغلب على أي صعوبات من الممكن أن تواجهه أثناء تحقيق حلمه.
وظف المخرج المكسيكي هوراسيو أكالا كل عناصر الوسيط السينمائي لإضفاء روح مختلفة على عمله المختلف فنجده وبمساعدة مدير التصوير بالطبع يستغلون عنصر الإضاءة استغلالا ماهراً من خلال الحكايا ومن خلال تكوينات المخرج البصرية التي أعدها المخرج ببراعة كما لو أنه يعدها لفيلم روائي وليس وثائقيا، وبتضافر هذه العناصر وغيرها استطاع المخرج أن يجعل من فيلمه فيلماً وثائقياَ مختلفاً.
النهاية…. البداية
في نهاية الفيلم ومع تضافر خيوط الفيلم، من خلال وضوح حكاية كل بطل من أبطال الفيلم، خاصة بعد الصعوبات التي مر بها كل منهم خلال مشواره لتحقيق حلم نكتشف أنها ليست إلا البداية، بداية من تعرضوا لإصابات بالغة منها ما هي في العمود الفقري كانت كفيلة بإقعادهم مدى حياتهم ومنعهم من العمل مرة أخرى، وكيف أن إصرارهم على العمل والنجاح كان كفيلاً بتذليل معوقات بدنية وحركية.
التواصل الإنساني…. يشعر المشاهد بأهمية القدرة على التواصل الإنساني من جديد، رغم الصعاب الحياتية من خلال الحياة اليومية، فهي قيمة ضرورية ليس فقط لنجاح فرق الأداء داخل السيرك، ولكن لنجاح أي فريق عمل في أي مجال، فحين فقد لاعب السيرك لحظة التواصل الإنساني التي تجمعه بشريكه سقط شريكه وتعرض لحادث مؤلم، وحينما استطاعا التغلب على ذلك الفقد استطاعوا أن يستعيدوا لحظة التواصل مرة أخرى كبداية جديدة.
الثقة…نجد الفتاة التي تذكر لشريكها بالفقرة الأدائية أنها لولاه لما فعلت ما تفعله، لما امتلكت لا الجرأة ولا الشجاعة للقيام بمثل تلك الحركات أو الفقرة كلها، كدليل على أن الثقة في العمل بين العاملين شرط أساسي لنجاح أي عمل، فهي لا تأمن لا على جسدها ولا على شكل أدائها مع أحداً غيره كدليل أيضاً على مدى التناغم والتوافق الذي وصلا إليه كشريكين.
وأخيراً فاقد الشيء من الممكن أن يعطيه… ففي حكاية الشاب الفلسطيني الذي افتقد لمدرسة أو مؤسسة يتعلم من خلالها فنون السيرك، خاصة بعد تعرضه لإصابة شديدة بعموده الفقري، نجده ليس فقط يتعلم فنون السيرك رغم إصابته، ولكنه يعود لوطنه بل ويجوب العالم لتعليم ذوي الاحتياجات الخاصة الذين يحلمون بتعلم وممارسة فنون السيرك الذين لا تتاح لهم تلك الفرصة، فيقوم بتدريبهم ومعاونتهم على تحقيق حلمهم ليغير من مفهوم فن السيرك ليس فقط في وطنه، ولكن بشكل عام أن من حق أي شخص يريد أن يتعلم أو يُتقن أي شيء أن يجد نافذة ولو صغيرة تعينه على تحقيق حلمه وشغفه. لينتهي الفيلم بسؤال تحريضي للمشاهد على اكتشاف شغفه بالحياة «هذه هي قصة حياتي فما هي قصتك؟
ناقدة مصرية
رشا حسني

m2pack.biz