سنين المنفى الأخيرة للكاتب النّمساوي في البرازيل
باريس «القدس العربي»: هذه النوعية من الأفلام تعتمد على شخصيّتها الرئيسية أكثر من أي شيء آخر، والشخصية هنا تكون من الواقع، اسماً معروفاً في مجال ما، هنا الأدب، فيأتي اسمها في العنوان ويتناول الفيلم بشكل ما سيرتها الذاتية ويحوي ملصق الفيلم صورة ممثل دور الشخصيّة في تقمّص لشكله ولوقفة أو جلسة أو وضعيّة ما، وغالباً ما لا يجذب المُشاهد المفترَض في أفلام كهذه لا المخرج ولا الممثل، ولا كاتب السيناريو، بل وحسب اسم الشخصية الواقعيّة، هنا: ستيفان زفايغ (1881-1942).
في فبراير/شباط الماضي كتبنا مقالة على هذه الصفحات تناولت فيلماً وثائقياً عُرض على قناة «آرتي» الفرنسية الألمانية بمناسبة ذكرى رحيل الكاتب النمساوي ستيفان زفايغ، كان عنوان الفيلم «ستيفان زفايغ، حكاية أوروبي». واليوم يُعرض في الصالات الفرنسية (Stefan Zweig: Farewell to Europe) من إخراج ماريا شرادر، الذي شارك في مهرجان لوكارنو السينمائي قبل أيام.
كلاهما يحكي بأسلوبه عن سيرة حياة الكاتب الأوروبي صاحب «رحلة في الماضي»، أو عن أجزاء من هذه السيرة. والمجال يبقى متاحاً أكثر في الفيلم الرّوائي، أما الوثائقي فحرص، وهذا مطلوب منه، على شمولية في مجمل مضمونه يجعل إدراك السيرة ببعض تفاصيلها أكثر متانة. أما الفيلم الرّوائي، وموضوع هذه الأسطر مثال عليه، فالمجال فيه مفتوح للمخرج في الكيفيّة التي يرى فيها ما يصوّره وما يتجنّب تصويره، لأسباب فنّية وحكائية، وخاصة سينمائية تخص المونتاج، أو لأسباب تخص المخرج دون غيره، وذلك في سيرة أحد أهم الكتّاب وأكثرهم مقروئيّة وترجمة في النصف الأول من القرن العشرين.
من المرجّح أن يكون معظم مشاهدي الفيلم اختاروا أن يشاهدوه لاسم «ستيفان زفايغ» في عنوانه، لا لأي سبب آخر يخص الفيلم كفيلم سينمائي، أو أيٍّ من فريق عمله. قد يكون ذلك سبباً أو نتيجة، أو كليهما، ليكون فيلم السيرة الذاتية، غالباً، متواضعاً، كي لا نقول رديئاً، بالمعايير السينمائية، بصرياً وحكائياً. فيتكئ الفيلم على اسم شخصيته وحسب، هنا: زفايغ.
بصرياً، باستثناء لقطة أولى، ومشهد أخير بديع، هو بمثابة الفصل الأخير (إبيلوغ)، يُصوَّر كاملاً من خلال كاميرا مثبّتة تنقل أحداثاً وحوارات معظمها خارج إطارها، نشاهد بعضها منعكساً على مرآة باب خزانة يُفتح، ونلمح زفايغ وزوجته ميّتيْن على السرير، وهذا مشهد يمتد لدقائق. أما اللقطة الأولى في الفيلم فهي لأزهار ملوّنة وكذلك الكاميرا ثابتة، وتمتد لثوان. باستثنائهما كان الفيلم عادياً من حيث الصّورة.
أما حكائياً فلم يكن الفيلم فعلاً سيرة ذاتية لزفايغ، بل صوّر عبر فصول تكوّن منها الفيلم يرتبط كل منها بمكان وجد فيه زفايغ في مرحلته الأخيرة في المنفى، بين ريو دي جانيرو في البرازيل وبوينس آيرس في الأرجنتين ونيويورك في الولايات المتحدة، صوّر تحديداً المرحلة الأخيرة من حياة زفايغ حتى انتحاره في 1942 في بيته في البرازيل. واعتنى الفيلم أكثر، ضمن هذه المرحلة، بأن يصوّر مَشاهد مختلفة من حياته، من دون أن يربط بينها بالضرورة، وبأن يصوّر جوانب من شخصيته، من أحاديثه، لكن أكثر ما اعتنى الفيلم بإظهاره كان إصرار زفايغ على عدم التصريح بموقف تجاه النازية، وليس في ذلك تحامل على الكاتب اليهودي الذي هرب من ألمانيا النازية، والذي مُنعت كتبه من أن تُطبع هناك.
ارتبط أكثر من مشهد بإصرار زفايغ على ألا يدين النازيّة، محاولاً المهادنة والحفاظ على مسافة متساوية مع الجميع، وقد سبب له ذلك إحراجاً في مؤتمر لجمعية «بِن» في الأرجنتين التي طالب أعضاؤها الكتّاب باتخاذ موقف واضح تجاه النازية، في مشهد أظهر حالة الحرج الشديد لزفايغ، وقد كان ضيف الشرف في حينها.
يبدأ الفيلم بوصول صاحب «أربع وعشرون ساعة من حياة امرأة» إلى البرازيل، مع احتفاء رفيع به من قِبل برجوازيّة ريو دي جانيرو من وجهاء ومسؤولين وناشرين، ومن البداية يُسأل في لقاء مع الصحافة الدوليّة عن مواقفه السياسية، من دون أن يجيب بشكل واضح ومباشر. ومن هنا، يسيطر على الفيلم الجزء الذي أمضاه من حياته في البرازيل، مع لوت، زوجته الجديدة وسكرتيرته.
علاقة السينما بزفايغ متعدّدة، من سيرة إلى تبنٍّ لأحد أعماله إلى الصيغة التي خرج بها المخرج الأمريكي ويس أندرسون قبل سنتين في فيلمه الجميل «فندق بودابست الكبير» حيث استوحى فيه أحداث وشخصيات من عدّة روايات قصيرة لزفايغ.
لم يكن الفيلم، المعروض في الصالات الفرنسية اليوم، سيَرياً إذن، كان أكثر تأمّلياً، مملاً في مواضع كثيرة، محشواً بأحداث وحوارات أمكن الاستغناء عنها.