ضحايا الزحف المقدس
على عكس الشائع، لم يكن حسني مبارك أول من صكّ شعار «هاجيب لكو منين»، الذي ظل بصيغه المختلفة شعارا معتمدا لدى حكام مصر، يلقون به مسؤولية فشلهم في تحقيق وعودهم، على الشعب الذي وثق بتلك الوعود.
كان جمال عبد الناصر صاحب براءة اختراع العبارة، التي أطلقها في نوفمبر/تشرين الثاني 1964، بعد ثلاث سنوات من فشله في تحقيق وعده بضبط الأسعار وإعادتها إلى ما كانت عليه، كان الزعيم يخطب يومها في عيد النصر، حين انفجر في جماهيره المحبة صارخا: «باقول لكم أنا وزكريا محيي الدين ماعندناش فلوس.. حنجيب الفلوس دي منين.. بابني لكم مصانع وابني لكم بلد.. جالي جوابات على زيادة الأسعار.. أنا مالي ومال بكره.. مالي ومال الاستثمارات.. إحييني النهارده وموتني بكره.. هل ده فعلا منطق الشعب المصري؟ تيجي لي جوابات ويقولوا لي انت قلت بنرجع بالأسعار ل61، ذلّوني بحكاية 61، لكن لقينا ده مستحيل..أعمل إيه.. ماهو ماعنديش.. ماعنديش إنتاج.. حاجيب لك منين».
يورد الواقعة المؤرخ شريف يونس في كتابه «الزحف المقدس: مظاهرات التنحّي وتشكّل عبادة ناصر»، وهو يتأمل مسار العلاقة المركّبة بين الزعيم وجماهيره الذين يلجأ لتعبئتهم عن طريق الوعد بمكاسب تبدو قابلة للتحقق، مقدما قراءة مهمة لنتائج السياسات الاقتصادية التي تبناها نظام عبد الناصر، والتي نُسجت حولها هالات أسطورية لا تزال تداعب خيالات المصريين الحالمين ببطل مخلص حتى الآن، وهي قراءة تؤكد أن التجربة الناصرية التي يصعب اختزالها في عبارات غاضبة أو مادحة، لم تحظ بعد ولأسباب لا تخفى على فطنتك بنقاش شعبي واسع وجاد، وهو ما يجعلها مستمرة في تأثيرها المعنوي والعاطفي على حياة ملايين المصريين، الذين ما زالت أحلام الزعيم المخلص، ونداءات الزحف المقدس تستهويهم وتعدهم بغدٍ أفضل.
تكشف قراءة الكتاب للدراسات الاقتصادية الجادة لأداء نظام ناصر في الخمسينيات، أن حصيلته العامة كانت نموا محدودا للدخل القومي، لم يتجاوز 4.7٪ سنويا، وهو ما يفوق بقليل الوضع قبل يوليو/تموز 52، وأن مساهمة الصناعة في ذلك الأداء كانت محدودة، فلم يرتفع كثيرا مستوى التشغيل، ليستمر تدهور مستوى معيشة الطبقات الأفقر، ولتبلغ الفوارق الطبقية في نهاية الخمسينيات هوّة فاحشة مع نمو الأرباح وعدم تقدم الأجور، رغم تدخل الدولة في الاستثمار المباشر، وتقييده لحركة رأس المال الخاص في جميع النواحي، وهو ما دفع النظام في نهاية خطته الأولى إلى تأميم رأس المال البنكي، وجانب كبير من رأس المال الصناعي الكبير، قبل أن يستكمل تأميم رأس المال المتوسط في عامي 1963 و1964.
ورغم دعاية النظام الهائلة في حقبة الستينيات عن افتتاح مصنع جديد كل يوم، تكشف الأرقام التي يستحيل تحويلها إلى أغان، أن الأداء الاقتصادي في الستينيات لم يكن أفضل، فالخطة الخمسية التي تم وضعها كانت ارتجالية، ورغم أنها حددت هدفا ثوريا هو مضاعفة الدخل القومي في عشر سنوات، إلا أنه لم توضع خطة تنفيذية مركزية لتحقيق الهدف، بل تُرك الأمر لاقتراحات القطاعات الإنتاجية المختلفة، بشكل عشوائي أدى في النهاية إلى كارثة اقتصادية، نجح النظام في التغطية عليها بماكينته الدعائية، ثم ساعدته هزيمة 67 على الهروب من تحمل مسؤوليته عن قراراته الاقتصادية والسياسية الخاطئة التي دفعت مصر ثمنها طويلا.
كما يلاحظ شريف يونس، لم تحقق الصناعة التي سيطرت الدولة على كل مفاتيحها، إنجازا أكبر مما سبق تحقيقه في الثلاثينيات والأربعينيات على أيدي القطاع الخاص، وبدلا من أن تنتهي خطتها بالفائض المستهدف، انتهت بعجز قدره 417 مليار جنيه، وبينما كانت نسبة السكان العاملين إلى مجموع السكان عام 1947 تبلغ 36٪، تراجعت النسبة وقت الخطة الخمسية إلى 30.1٪، وواصلت التراجع بعد ذلك، لأسباب مختلفة منها: «اندفاع النظام بحكم توازناته السياسية إلى تشجيع الاستهلاك الفردي والعام، فزاد الاستهلاك الفردي بنسبة 34٪، والعام بنسبة 77٪، فضلا عن أعباء حرب اليمن، والإنفاق على مشاريع غير مجدية، مثل مصنع للطائرات لم يصل لمرحلة الإنتاج، وصاروخي القاهر والظافر اللذين كانت إمكاناتهما الفعلية أقل بكثير مما فاخرت به الدعاية، وانتشار الفساد في القطاع العام والجهاز الإداري».
ينبهنا كتاب «الزحف المقدس» إلى أن دولا أخرى «متخلفة» حققت في الفترة نفسها معدلات نمو أعلى بكثير، حدث ذلك في أمريكا الجنوبية والهند وشرق آسيا والصين، أي في دول «عميلة للغرب» وأخرى شيوعية، ويرجع سر فشل الخطط التنموية إلى أن طموح النظام كان كبيرا بالنسبة لقدراته، فلم يكن قادرا على «التوقف عن دفع الرشاوى الاجتماعية لطبقات مختلفة، ولو على حساب أي تنمية، ولم يكن قادرا على تصفية الرأسمالية جذريا، بل صفّى قطاعها الأرقى، تاركا قطاعاتها الطفيلية والتداولية تعمل بكامل قوتها على استنزاف قطاعه الصناعي العام المعرض للنهب، ويكفي أن قطاع الإنشاءات حصل على ما بين 40٪ و50٪ من جملة استثمارات الخطة»، لتثبت التجربة الناصرية أن تأميم الصراع الطبقي كان أسوأ وضع ممكن لتحقيق التنمية، فبينما كانت عمليات التنمية الناجحة مقترنة بانتصار أكيد لطبقة، أو طبقات ضد طبقة، كانت سياسة النظام الناصري الاقتصادي إلى حد كبير انعكاسا لمصالحه السياسية المحدودة، التي انحصرت في فكرة تعبئة الشعب، عن طريق الوعد بالمكاسب، بصرف النظر عن وجود موارد كافية لها، «ليكون فقر سياسته الاقتصادية فرعا من فقره السياسي العام».
يعرض الكتاب مطولا لدراسة الباحث عادل العمري، الذي يؤكد على أن النخبة المسيطرة على نظام ناصر، لم تصل في خصومتها مع طبقة رجال الأعمال إلى النهاية، وأن الفئة الوحيدة التي نالت الضربة القاضية كانت الأرستقراطية الزراعية، وعلى رأسها العائلة المالكة بوصفها التحدي الفعلي للسلطة، ورغم ما تم تقديمه من مِنَح لعمال الصناعة والنخبة المثقفة، لم تكن الناصرية أبدا ممثلة لهم، فقد رافق عطاياها قمع شديد، وبسبب ضعفهم السياسي قُمِع الفلاحون وسُحِق عمال الزراعة بدون تقديم رشاوى ذات بال، «أما الفئات التي استفادت بشكل فعال، فكانت المقاولين والسماسرة وكبار التجار وأغنياء الريف». يتأمل الكاتب العلاقة الدرامية بين عبد الناصر والفقراء، الذين كان ناصر رمزا وأسطورة في أحلامهم، وبالذات لدى أكثرهم عجزا وبعدا عن فهم آليات السلطة، ليكون هؤلاء سندا وظهيرا يساعد آليات النظام الدعائية على التوسع، فلا يكف عبد الناصر عن مدح الأغلبية الفقيرة والوعد بتغيير أوضاعها المزرية، ولا تكف هي عن إعلان حبه حتى العبادة، والتعبير عن حاجتها إليه كبطل مقدس، بدون أن يكون لها طموح يتجاوز تثبيت الزعيم في سلطته، في حين يقف بين الزعيم وأغلبيته الداعمة جيش البيروقراطيين الذي اختاره ناصر ليكون أداة حكم نظامه الرئيسية، بينما تكون أداة استقراره الحقيقية هي الطبقات الأسعد حظا، التي استبقاها وأضاف إلى ثروتها، وهو وضع تعيس يعيدك في نهاية الكتاب، إلى بدايته التي اختار لها شريف يونس عبارة لبريخت تقول: «تَعِسٌ ذلك البلد الذي يحتاج إلى بطل»، لتسأل نفسك عن مدى تعاسة البلد الذي بات يحكمه مدعي بطولة، يطلب طيلة الوقت تعبئة شاملة وزحفا مقدسا، بلا أدنى مكاسب يحققها لشعبه.
….
«الزحف المقدس: مظاهرات التنحّي وتشكّل عبادة ناصر» شريف يونس دار ميريت
٭ كاتب مصري