“طعم نت” الفائز بأفضل وثائقي في “دبي” فيلم البناء والدمار في سوريا ولبنان

“طعم الإسمنت” الفائز بأفضل وثائقي في “دبي”: فيلم البناء والدمار في سوريا ولبنان

'طعم الإسمنت' الفائز بأفضل وثائقي في 'دبي'.. فيلم البناء والدمار في سوريا ولبنان

لا يحتاج المخرج السوري زياد كلثوم إلى الكثير من الكلمات لتحقيق “طعم الإسمنت”، الفائز بجائزة أفضل فيلم وثائقي في مهرجان دبي السينمائي (٦ – ١٣ الجاري). توضيح هنا. محاولة ربط فكرة بلقطة هناك. هذا يكفي. فاللقطة عنده، على مشهديتها، تنطوي على كمّ من المعلومات، وهذا وحده يعيدنا إلى فجر السينما. ثم ان صمت سينماه البليغ يلتقي صمت العمّال الذي يعكّر صفوه بعض الضجيج الصادر من احتكاك الحديد بالحديد. يذهب بفيلمه المرهف إلى أبعد من ذلك: فهو ليس عاجزاً عن القول والتعبير، بل عن تأكيد الأسى والاحتقان، لذا يختار الأجساد حقيقة لكشف ما في النفوس.
المشاهد العريضة في “طعم الإسمنت” تصوّر رجالاً معلّقين بين السماء والأرض. انهم عمّال بناء سوريون، ينظرون في اتجاه الأفق، أحدهم يتذكّر والده عامل البناء في بيروت، ويستعيد ذكريات الطفولة التي لم تفارفه. العمّال هنا “ناجون” وجدوا حالهم في مواجهة آلات ومعدات بناء ثقيلة تسحقهم ولا تكترث. يجعلهم المخرج حرفياً في الوضعية التي هم فيها، يعني بين فضاءين، لحظتين مصيريتين. رؤوسهم لم تنطح الغيوم بعد، لكن أقدامهم لا تتجرأ ان تدوس الأرض. ليس عليها ما يستحق ذلك.
“بس تبلّش الحرب، المعمرجية بروحوا على بلد تاني، وبينطروا الحرب ببلدهم لتخلص، ويرجعوا يعمروه”، يقول البنّاء، مُحدثاً شرخاً كبيراً في قلب الفيلم. فكيف لهؤلاء الذين تتسرب أحلامهم من بين أصابعهم التي أتلفتها المواد الصلبة والخشنة، ان يبنوا أحلام الآخرين طابقاً فوق طابق؟ مفارقة البناء/ التدمير – الصعود/ النزول التي يوحي بها هؤلاء هي في صلب “طعم الإسمنت”. الا ان الفيلم على قدر معين من الذكاء كي لا يقول الأشياء بطريقة مباشرة، أو ان يضعنا في قلب ثنائية شغلتنا بعد انتهاء الحرب وإعادة إعمار البلد، ونعني بها ثنائية الحجر والبشر.
كلّ مادة من مواد البناء تكتسي أمام كاميرا مدير التصوير طلال خوري ذورة تعبيرية. سواء أكانت خشبة تُقطع بالمنشار، أمحبالاً من الحديد تلتوي، أم باطوناً يتم صبه، يتشكل المعنى وهي غير مكتسبة. أما جمالية الصورة فتجعل من محتوى علبة سردين يفرغها العامل على رغيف خبز، الحقيقة الوحيدة التي يستحق الأخير أن يعمل من أجلها، في ظل إنهيار كلّ شيء من حوله. ثمة شاعرية يستخرجها الفيلم من الأشياء التي لا نلتفت اليها في أي مدينة، فما بالك اذا كانت بيروت، الورشة التي لا تنتهي. لو لم يكن الفيلم سوى هذا، لكان ليكون جميلاً ومؤثراً، لكنه سرعان ما يتخطاه ليلامس أوجاعاً أخرى. فيرينا هؤلاء الذين لا نعرفهم الا بقدر ما تتيحه الجغرافيا. كأن العامل السوري غير المرغوب به أينما حلّ في بلد الجميع يبغض الجميع، يصبح مرئياً…
يطلّ الكادر على لبنان بصفته بقعة يصعب اختراقها، فهمها، والانتماء إليها. تبقى الكاميرا على مسافة منها. انها مسافة “طبيعية” اذا أخدنا في الاعتبار المسافة بين العامل والبيئة التي يعيش فيها. زحمة السير التي تخنق اللبنانيين، يصوّرها الفيلم كسحبة ملونة تكسر كآبتها. الفيلم يلفظ المدينة، بقدر ما تلفظ المدينة مَن يبنيها. والمدينة ليست أفضل حالاً من بنّائيها: بشعة، ملوثة، فوضوية. المخرج يطرح نفسه هنا مراقباً لديه موقف ووظيفة ومكلف أمراً ما، ولكن سرعان ما تسقط كلّ التكليفات أمام إغراء السينما. الا ان اصراره على إدخال مادة إخبارية (لافتة تذم السوريين) إلى فيلم يصنع نفسه بنفسه ويستغني عن التعليق، يُعدّ اقتداراً.
ثمة مشهد بديع تم التقاطه من فوق، يظهر العمّال وهم يسلكون السلالم، الا ان تشكيل الصورة يجعلهم يبدون كأنهم ينزلون إلى جبّ في الأرض، أو في حفرة حيث ظلام دامس. كالسجناء، دائماً كالسجناء، تحاصرهم الجدران وأسياخ الحديد والأقفاص، لتنعكس ظلالها على وجوههم الحزينة والمهمومة. المباني الشاهقة التي يشيدونها تصبح هي نفسها في الأخير قبوراً ينامون فيها. نراهم يقلبون صور الدمار على شاشات هواتفهم المحمولة. وما أصوات مذيعي نشرات الأخبار سوى أصداء لما هم فيه، ولا يدركون ذلك الا عندما يعودون إلى الجبّ، بعد أن تدفشهم المدينة إلى هذا الحيّز اللا إنساني.
الإسمنت هو ما يربط ماضي عامل بحاضره. رائحة تلك المادة التي ما إن فارقته في سوريا حتى عادت لتزكم أنفه في لبنان. من حفرة تم انتشاله منها بعد تدمير مبنى، إلى حفرة عاد اليها ليبني. البناء والتدمير لم يكونا يوماً متواطئين إلى هذا الحد. بحنكة لافتة، يهدم الفيلم الفاصل بين ماضي لبنان القريب وحاضر سوريا. غريب كيف ان فيلماً عن سوريين يصبح أيضاً فيلماً عن لبنان!
“طعم الإسمنت” فيلم عن الضجيج، ضجيج آلات الدمار ومعدّات البناء الذي يصبح واحداً في رأس عمّال البناء. مشتغلاً بموارد سينمائية محدودة، يختار نص كلثوم زاوية محددة لقول أهوال الحرب والسلم على أشخاص يتلقون ضربة تلو ضربة، مدركاً انه “كلما إتسعت الرؤية، ضاقت العبارة”.

m2pack.biz