«عم تبحث في مراكش؟» لمحمود الريماوي.. متاهة الفضاءات
قبل أن تصلني هذه المجموعة القصصية وقفت مندهشا أمام غلافها الذي راج على بعض الصفحات الاجتماعية… إنها فتنة العتبات وفتنة مراكش المغربية وانتظار نص حي يعيش علاقة حميمية مع مكان استثنائي ويتفاعل معه.. فأحيانا يكون الوقوف عند عتبات عمل أدبي عملا لذيذا، لا يختلف عن الوقوف باندهاش أمام واجهة بعض المحلات، ولعل هذا الأمر يحدث مع هذه المجموعة القصصية الصادرة عن دبي الثقافية بإمضاء الكاتب العربي الفلسطيني والأردني، محمود الريماوي.. فالعنوان شهي ومثير ومرد ذلك صيغة السؤال التي جاء عليها ثم مراكش في حد ذاتها، فهي مدينة ساحرة وذات مناخات اجتماعية تراثية وشعبية خاصة لا يمكن للفرد إلا أن يحبها ويستمتع بها.
أما صورة الغلاف وهي التي جاءت مشهدا لمدينة عربية تقليدية فتغري باقتحام الأبواب والانعطاف يمينا أو يسارا، حيث الحياة الأخرى تبعث رغبة في عيش المكان… وزيادة على هذا يباغتنا الكاتب بتصدير خاص «أنت لا تذهب (حين تذهب) إلى مراكش…أنت تعود إليها». فمراكش حسب هذا التصدير تسكن في الأذهان ولا يمكن للفرد إلا أن يذهب إليها بذاكرة شخص يعرفها وبحميمية العودة.
بهذه العتبات بعث فينا الكاتب حرارة قرائية بإمكانها التصدي لهذا البرد الشديد الذي يطوقنا هذه الأيام، وقد انقسمت المجموعة حسب تصنيف الكاتب إلى قسمين… قسم أول وقد ضم سبع قصص وعنونه بقصص مراكش. وقسم ثان وفيه ثماني قصص وقد عنونه بقصص أخرى. والواضح أن الكاتب صنف أقاصيصه حسب المقياس المكاني، وما إفراده مراكش بقسم خاص من القصص التي دارت في مناخاتها إلا رغبة في تحية هذا المكان ومحاولة الاحتفال به قصصيا، فمراكش ذات مخزون وفير من المواد الأولية للسرد والحكي، ولعل صديقنا محمود الريماوي في هذه المجموعة أراد النهل من هذا الرصيد، مزاوجا بين الواقعي والخيالي، فالقصص تتوغل في عوالم وأنحاء مراكش وتنقل جانبا من مناخاتها، لكن الكاتب كان حريصا على أن يضفي عليها جانبا فنيا، موظفا نوعا من العجيب – وهو بهذا العجيب يستجيب لمقتضيات الكتابة الإبداعية من جهة، ويحاول إضفاء صورة العجب على مراكش.
المجموعة الأولى من هذه الأقاصيص، وهي التي أهتم بها، في هذه الكتابة الأولى عن المجموعة أقاصيص تشترك في المكان المفتوح الواحد، ألا وهو مراكش، لكنها تختلف في الأماكن الصغيرة والمغلقة والمحدودة… فهي جولة سردية متقطعة في مراكش تمر بالكثير من فضاءاتها (الدكاكين- المقاهي- الملهى المغلق-حديقة مولاي عبد السلام – الحقول- محطة مراكش…) ذلك أنه حرص على مواكبة الحياة في هذا المكان والتنقل بين هذه الفضاءات ذات الطابع الخاص.
لقد كان الكاتب رساما ماهرا بالحروف، صور مراكش ومشاهدها بالكثير من الواقعية، وحمل لنا بعض أجوائها الطريفة، لكنه لم يستسلم لواقعيته ولمحاكاة الواقع المادي، اذ اعتمد الفنطازي والخيالي في بعض المواقف ومثال ذلك، قصة «أشجار لا تبوح بالأسرار» التي تدور في مكان معلوم ومعروف وهو الحديقة الرقمية بمراكش فلقد انطلق الكاتب من وصف واقعي مشوق، ولكنه فاجأنا في النهاية بالزج بالخيالي في القصة… فلقد انطلق واصفا البائع الشاب «…الريفي الوافد حديثا إلى مراكش ليس طفلا فهو بسحنته السمراء وقد لوحتها شمس الجنوب يوشك على بلوغ عامه السابع عشر…» ص40
ثم ظهرت شخصية الشيخ «ها هو يرى رجلا مهيبا يرتدي عباءة ريفية قشيبة ينتبذ مكانا قصيا ليس بعيدا عن بوابة الحديقة… إنه الشيخ الوحيد في المكان.. تحيطه هالة في وضح النهار…» ص42
كما ظهر سائح أوروبي ودارت بينهما محاورة توحي بواقعية السرد، غير أننا نكتشف المفاجأة في النهاية، ونعرف أن الكاتب استدعى شخصيتين تاريخيتين لهذه القصة فما الشيخ إلا «مولاي عبد السلام» الذي سميت الحديقة باسمه، وما السائح غير غراهام بيل مخترع الهاتف، حيث يقول الراوي على لسان إحدى الشخصيات: «… فقد كان معنا حضرة الانكليزي غراهام بيل مخترع التلفون الذي يحل ضيفا مكرما على مولانا عبد السلام …» ص48. أما الشخصيات السردية فلم تنج من هذه الثنائية، فهي ذات نماذج واقعية حينا ولكنها متخيلة أو مدعوة من التاريخ من جهة أخرى، وهذه الشخصيات تغلب عليها حالة اللااستقرار والحركة المتواصلة، فلا تستثنى قصة من هذه الحالة، أي حالة الرحيل والسفر، ففي قصة «عم تبحث في مراكش» و»نصف دقيقة»، يبدو الراوي سائحا في زيارة لمراكش.
وفي «أشجار لا تبوح بالأسرار» يبدو البائع المتجول قادما من الريف والسائح مخترع الهاتف قادما من الغرب. و»في تلك الحافلة» تحل فاطمة من فرنسا بعد إقامة مضطربة وتعثر على أمها المستقرة في المحطة… فحالة الرحيل متلبسة بهذه الأقاصيص، ولعل هذا مرتبط بالكاتب أو الراوي، إذ يبدو أن هذه النصوص هي أصداء لزيارة إلى مراكش.
أما الملاحظة الثانية حول هذه الشخصيات فكونها شخصيات تبحث عن أشياء معينة، ففي القصة الأولى يبحث ابراهيم وهو فلسطيني عن صديق طفولة مغربي كان هناك ثم ارتحل والده،
« عم تبحث في ديارنا؟
عن فتى مراكشي
ما اسمه؟
محمود
فيم بحثك أنت الكهل عن فتى
أعرفه فتى…» 10
ولعل هذا البحث الذي لم يؤت أكله يحمل دلالة رمزية… لعله يصبح سؤال الفلسطيني عن شقيقه العربي الذي ابتعد عنه وتركه.
أما في تلك الحافلة فتقابلنا شخصية الأم عائشة الباحثة عن ابنتها بشكل هستيري «عائشة الأم تنوء بانتظار طويل ينحني معه رأسها… فإنها تمكث ثابتة في موضعها تفترش أرض المحطة ولا تتزحزح عن ثقتها الأكيدة بقرب وصول حافلة فاطمة…»67. فأغلب شخصيات المجموعة تسيطر عليها الحركة والبحث وهو ما يجعلها باحثة ذات أسئلة وهو حال إنسان اليوم…
وما يمكن قوله في نهاية المطاف إن محمود الريماوي احتفى بمراكش وبفضاءاتها وشخوصها ومزج في قصصه بين الواقعي والخيالي، وبين المؤلم والممتع وجعل قارئ أقاصيصه يطرق أبوابها مندهشا، ثم يتذوق فيها مزيجا من طرافة ومتعة الشخصيات وحكايتها ومن مرارة تجربتها وأسئلتها… والأكيد أنه بمزيد الاطلاع على هذه القصص وبمساحات من الوقت والورق يمكن اكتشاف الكثير من عالم السرد بين ثناياها.
كاتب وناقد من تونس
رياض خليف