«فاني والكسندر» للسويدي إنغمار بيرغمان الحياة بين أشباح الفن والدين

«فاني والكسندر» للسويدي إنغمار بيرغمان.. الحياة بين أشباح الفن والدين

«فاني والكسندر» للسويدي إنغمار بيرغمان..  الحياة بين أشباح الفن والدين

القاهرة «القدس العربي»:لم يكن الإنسان البدائي يحيا إلا في خوف من كل ما يُحيطه، كان يريد الاطمئنان بشتى الطرق، ويُعلق مصيره بالسماء، فجاء الرجل الأذكى في القبيلة، ليتصنع المعرفة بلغة السماء، وتنشأ أول سُلطة بشرية على الأرض، منبعها الخوف، ليتخذ هذا الرجل عدة صور مع مرور الزمن … العرّاف/الممثل (نشأ المسرح من عباءة الدين)/رجل الدين.
وهنا يحاول (بيرغمان) التساؤل عن الحياة بين الفن بكل ما يحمله من مقومات حرية الإرادة والتفكير في شكل منطقي إلى حدٍ كبير، وبين الحياة في ظِل الدين وممثليه. سؤال لم نزل حتى الآن ندور في فلكه، وجدير بأن يدور حوله آخر أهم أفلام المخرج السويدي «إنغمار بيرغمان 1918 2007»، المعنون ب Fanny and Alexander (1982) الذي نال العديد من الجوائز، منها جائزة النقاد بمهرجان فينيسيا، وجائزة الأوسكار كأفضل فيلم أجنبي، إضافة لأفضل ديكور وتصوير وملابس. تم عرض الفيلم مؤخراً من خلال النشاط السينمائي لمركز «بيت الوادي للثقافة والنشر»، المتمثل في «نادي سينما بيت الوادي» بالقاهرة.
الحكاية
يبدأ الفيلم باستعراض حياة مستقرة لأسرة الطفلين (فاني وألكسندر)، حيث يعمل الأب والأم بالمسرح. تبدأ الأزمة بعد موت الأب فجأة، هذا الموت الذي لا يتقبله ألكسندر، ويعيش مع والده المتوفى في خياله. تتزوج الأم من أحد القساوسة، فتذهب بطفليها للعيش معه في بيته، وهنا يبدو الفارق بين حياة لها طابع اجتماعي ومادي مختلف، إلى حياة أخرى أكثر تقشفاً، وخضوعاً لتعاليم دينية قاسية، يقوم بها رجل دين أقسى، لتتحول حياة ألكسندر إلى جحيم، خاصة و ان القِس يعمل جاهداً على كسر إرادة الطفل المزعج حسبما يرى حتى يصبح ضمن مفردات عالم القِس. فالأزمة هنا متبادلة بين الطفل والقِس، الروح الحرّة والتقاليد الدينية، حتى أن القِس يعترف للأم هو الذي يعترف بما يؤرقه حيال طفلها الغريب، فهو يخشاه أكثر، لأنه كان يظن في نفسه الحكمة، ولم يتوقع أن يكرهه أحد، إلا أن الكسندر وهذا البغض الذي يبديه له، جعله يشك في ما يفعله وفعله طوال حياته، وقد تحطمت صورته أمام نفسه، لذا أصبح أشد عنفاً في مواجهة الآخرين. المقارنة هنا لا تخفى بين الطفل وروحه الطليق رغم ضعفه، وبين الفكر الديني وتعاليمه، وموقفه من مُعارضيه.
يتدخل عم الكسندر، لتخليص الأسرة من هذا الجحيم، ليتحول الأمر إلى حالة من طقوس سحرية أقدم، يقوم بها صديق العم اليهودي، وبالفعل يستطيع الكسندر وفاني الهرب من بيت القِس، إلا أن الأم لا تستطيع ذلك، خاصة بعد رفض القِس تطليقها، وهي تحمل جنينها الأول منه. تتحايل الأم وتضع منوماً للقِس، وتهرب، إلا أن البيت يحترق والرجل نائماً بالداخل، ليتم التخلص منه أخيراً.
الأمر لا ينتهي عند هذا الحد، بل تبدأ هواجس جديدة تنتاب الطفل ألكسندر، إذ يتراءى له (شبح القِس) ليُحمله مسؤولية موته، وهنا نجد المقارنة الحتمية بين حالة هاملت وشبح الأب، الذي يدفعه للانتقام لاحظ طريقة التخلص من القِس، مقارنة بموت والد هاملت ليعيش ألكسندر حالة مزمنة من القلق، توحي بأن موت القِس لم يكن أبداً مُصادفة، بل كان الأمر مُدبراً إلى حدٍ كبير، وهو ما يستمر في إقلاق روح ألكسندر، حتى بعد التخلص نهائياً من حياته في بيت الأشباح/بيت القس، واستئناف الحياة بصورة شِبه طبيعية مرّة أخرى، متمثلة في مظاهر تعميد الطفلة الصغيرة ابنة القس، والأخت الصغرى لفاني وألكسندر.
طفولة بيرغمان
تم تفسير الفيلم على أنه سيرة ذاتية أو ما يُشبه السيرة الذاتية لبيرغمان، إلا أن الأمر يبدو وكأنه الاستناد إلى ذكريات طفولة بيرغمان، دون تفاصيل هذه الطفولة. هناك موقف صارم من الدين ورجاله، إلا أن بيرغمان يعترف بأنه لم يتخلص مطلقاً من أشباح مخيلته وبالتالي أفكاره حول الدين، إلا … لماذا يرى ألكسندر شبح القس، الذي يُطالبه بالانتقام، رغم الكُره المتبادل بينهما، وما مدى الشعور بالذنب الذي يُبديه ألكسندر تجاه موت القس، الذي كان يتمنى الخلاص منه في كل لحظة. هي حالة من القلق الوجودي، لم يستطع بيرغمان على ما يبدو التخلص منها. ولعل هناك جُملة موحية ذكرها بيرغمان في سيرته الذاتية المعنونة ب «المصباح السحري» إذ يقول «لا يموت الإنسان نهائياً ويبقى الميت ليزعج الأحياء».
الأشباح والخيبات الإنسانية
أقام بيرغمان الفيلم بين عالمين … عالم الأطفال، المتمثل في فاني وألكسندر .. عالم تسكنه الأضباح والحكايات الخرافية، والتي تأكدت مكانياً في بيت القِس، بخلاف بيت الطفولة قبل موت الأب وهو أشبه ببيت أرستقراطي مُرفه، كانت تسرد فيه قصص الأطفال كحكايات قبل النوم، أما أن تتحول الحكايات إلى واقع، إحساس مكاني وحياتي يستشعره ألكسندر، وهو الشعور الذي ظل مرافقاً له، حتى بعد هجره لهذا البيت، فالروح التي غادرته لم تغادر ألكسندر، وظلت تتبعه، وكأن هذه الأشباح ستظل تحيا في عالم لن يقتصر على مرحلة الطفولة، كما في حالة ألكسندر.
بينما في الواقع تبدو الخيبات الإنسانية في صورها الحياتية … من موت وألم، وقلق مُستقبلي غير مفهوم، ولا توجد له تبريراته المنطقية، وكانها صيغة الحياة كما يحياها الكبار.
هذه المقارنة بين حياتين تبدأ مع اختيار مهنة الأب والأم .. فعالم المسرح ما هو إلا حيوات مؤقتة ومستمرة في الوقت نفسه، حياة قصيرة وموت طويل، وهي الحالة نفسها التي تبدو كتكرار إيقاعي ارتبطت به الشخصيات … حرية الخيال والواقع المميت، حياة الأم التي عادت في النهاية كما كانت، بعدما تخلصت من القِس، وشبح الطفولة الذي سيُلازم ألكسندر بعد تخطية عتبة طفولته الفيلم يوحي بذلك ليعيش معه في الواقع.
وحتى يتم الربط وإقامة الجسر الواهي بين الحياتين، يبدو أن كلا منهما يكمل الآخر، وإن كان بصورة غير مباشرة … أشباح حكايات الطفولة وعالم الأعمال السحرية، الذي تخلص بالفعل من جثة القِس، لكنه ترك شبحه يؤرق الروح الطفولي إلى الأبد.
محمد عبد الرحيم

m2pack.biz