فاتح المدرّس… طاحونة ألوان الشرق

فاتح المدرّس… طاحونة ألوان الشرق

فاتح المدرّس… طاحونة ألوان الشرق

«أنا أحب أعمالك، إنها من الشرق!»
قالتها طفلة ألمانيّة للفنان السوري فاتح المدرّس (1922م/1999م) ، اختصرت بهاتين الكلمتين روح أعمال المدرّس، أهم الروّاد في الفن السوري، فروح الشرق تسري بعروق لوحاته تمنحها الحياة و تجعلها في الصدارة، حتى أن رئيس ألمانيا المتحدة (فالتر شيل) استقبله في معرضه في مدينة بون و قال له: «إني أحب أعمالك»، و قام جان بول سارتر باقتناء عدد من لوحات فاتح سفير الشرق، أو كما جاء على لسان بعض النقَّاد هناك- ساحر من الشرق- يقول فاتح:
كنت زائراً من الشرق فكانوا يسمُّونني der Syrisch ، أي «السوري» طبعاً.
ذاك السوري حمل السهوب الخضراء وجغرافية المنطقة الشرقيّة في لوحاته بأشكالها وألوانها حتى قيل عنه في أكاديمية الفنون في روما «إنه رعب الأكاديمية! إنه طاحونة ألوان!»
، و انتقل بعدها إلى معطيات سوريالية في مرحلةٍ ما إلا أنها كانت بشكل مقبول لطيف، لا يحمل نزق السورياليين الأوائل واعتمادهم «الصدمة» كضوء للَّوحة، ثمّ بدأ ولعه الفولكوري يبرز في أعماله باللون وبمأساة اللون في وجوه الفلاحات والأطفال في شمال سورية هذا الموضوع الذي لم يبارحه لوقتٍ طويل في سبيل تصوير أجمل المقهورين، و بعدها انتقل إلى مرحلة الإيماءات و الرمزية و ظهرت الأيقونات (التي تمثل الفن الشرقي) في لوحاته كبطلٍ أساسي في أعماله الكثيرة
هذه الأيقونات تحمل وجوهاً نعرف بها لوحاتِه، لا تتبدل من عملٍ لآخر وجوهٌ بسيطة عيونٌ زائغة مليئة بالأسئلة و كأنّها تحاورك و تطلب منك إجابات، لا تجرؤ على أن تقول لك كلّ الحكاية إنما تحمل على ظهرها عبء البقاء في اللوحة إلى حين تعرف الإجابة، تلك الوجوه أعطتَ هويةً لا تمحى لأعمال فاتح المدرس الألوان الحارة في أغلبها القويّة في المجمل كانت دليلاً على حياةٍ صعبة عاشها في طفولته و انعكاساً لبيئةٍ حملها على ظهره قبل أن تحمله على أرضها
وجوه فاتح المدرس مهدَّدة بما وراءها لأنها لم تتجاوزه، بل حادت عنه: في عيونها خوفُ مَن يمشي في طريقٍ لا نهايةَ له و لا طريق بعده، كأنها تطرح نفسها إشارة استفهام لا يمكن طرحها ، عكازاً لتساؤلات كثيرة ملأت نفس المدرّس.
إن الفن الشرقي الذي تنتمي لوحات المدرّس إليه يتميّز باعتماده الخط في بناء العمل الفني، نقاء اللون، الانتقاء المتميز لشكل المسطح و هو فنٌ في جوهره غير منظوري والفن اللامنظوري، بطموحه إلى «الأبدي»، يلغي الزمن، لأن الزمن يدنِّس، و بغياب الزمن فالمسافة مستحيلة، فلا نستطيع اجتيازها كما يقول النفري «بُعْد بلا مسافة»، بعدٌ مؤثرٌ بحضوره و بغيابه لذلك نراها متبدلةً في مثل هذا الفن، فالمسافة تختلف من اللوحة إلى مُشاهِدها عنها بين المُشاهِد إلى اللوحة
فالتقدم في أعمال فاتح المدرس، هو تقدم مطلق لا زمني و لا مكاني حيث أن خلفيات اللوحات غير الآمنة و شبه العدوانيّة أحياناً تأسر المشاهد فلا يستطيع أن يعرف كم اجتاز من اللوحة، إنها تبقيه كالراكض خلف سرابٍ لا يُطال، يروي ظمأ عينيه و يبقى عطِشاً، فاقدٌ هو كلّ اتجاهاته، لا يمسك وراءً خلّفه بدخوله هذا العالم ليقول: هذه هي المسافة التي قطعت، إنها المسافة المجهولة كالمسافة بينه وبين الحياة تماماً.
و إذا كان استخدام الرموز والأيقونات في الفنون الشرقية بشكل عام يعكس منهجاً فكرياً ذا طابع فلسفي إلا أن عين فاتح المدرس لم تحمل خطاباً واحداً: بل إنها تسجل الإيحاءات كما أُنزِلَتْ، وتسجِّلها مع الإبقاء على حداثتها
لقد استطاع فاتح المدرّس أن يوصل روح الشرق للعالم، بنظرته المختلفة للحياة فالأثر الفني حين ينفصل عن إطاره الثقافي يصبح أثراَ غير قابل للفهم أي لا يروق للإحساس الجمالي في بلد آخر، لكن روح فاتح و ريشته جعلته أثراً مفهوماً و محبوباً ينظر الآخرون إلى أحداثه الجمالية من ناحية منفتحة عالمياَ.
أيقونات و وجوه فاتح المدرّس مطبوعة في ذاكرة كلّ مَن شاهد لوحاته وأحبها، وفي ذاكرةِ التاريخ الفني العالمي الذي لن ينسى فاتح المدرس الساحر الذي أتى من الشرق .
كاتبة سورية
بسمة شيخو

m2pack.biz