فيلم «الوريثات» لمارسيلو مارتينيسي رحلة امرأة إلى الحرية والخروج من العزلة

فيلم «الوريثات» لمارسيلو مارتينيسي.. رحلة امرأة إلى الحرية والخروج من العزلة

فيلم «الوريثات» لمارسيلو مارتينيسي..  رحلة امرأة إلى الحرية والخروج من العزلة

برلين «القدس العربي» من نسرين سيد أحمد: في فيلمه «الوريثات»، الذي شارك في المسابقة الرسمية في مهرجان برلين في دورته الثامنة والستين (15 إلى 25 فبراير/شباط الجاري)، يقدم المخرج مارسيلو مارتينيسي، وهو من باراغواي، رحلة امرأة في منتصف العمر صوب الحرية والاعتماد على الذات بعد سنوات من العزلة. يقدم الفيلم رحلة نحو اكتشاف الذات والرغبات والعثور على الحب، ولكنها رحلة أيضا تكشف لنا الكثير عن مجتمع باراغواي وطبقاته المتشابكة وخباياه الاقتصادية والاجتماعية.
تشيلا (أنا برون)، الشخصية المحورية في الفيلم، ستينية رقيقة خفيضة الصوت، تشير كل حركاتها وسكناتها إلى رقي امرأة تأتي من أسرة عريقة ميسورة الحال. تشيلا تتقاسم منزلها العريق، الذي وصلها إليها كإرث من أسرتها، مع تشكيتا (مرغريتا إيرون) صديقتها وشريكتها في الحياة على مدى أعوام طويلة.
يتضح لنا منذ اللحظات الأولى في الفيلم الفارق الكبير في الشخصية بين تشيلا وتشيكيتا. تفاصيل دقيقة يرسم بها مارتينيسي شخصية تشيلا، من اختيارها للألوان الهادئة لثيابها، لنظرتها التي تبدو كما لو كانت هائمة في عالم من الأحلام، لهوايتها المفضلة وهي الرسم، إلى ميلها للعزلة وعدم الاختلاط بالآخرين، على النقيض من تشيكيتا التي تفضل الرقص والغناء والحياة الاجتماعية الصاخبة.
شخصية تشيلا وحياتها الحالمة لا يمكن عزلهما بأي حال من الأحوال عن وسطها الاجتماعي والاقتصادي، فهي ابنة الطبقة الثرية العريقة، التي تتدثر بما بقي من ثرائها الغابر ليحميها من الحياة ومن متاعبها وقبحها. تعيش تشيلا حياتها وفقا لنسق اعتادت على تفاصيله الصغيرة، نسق يؤدي أي تغيير في تفاصيله الحالمة إلى توترها وضيقها. ولكن العالم الخارجي، الذي عاشت تشيلا طوال عمرها في معزل عنه، يأتي فجأة ليزلزل سكون حياتها ويحطم سكينتها. ديون متراكمة تعجز تشيكيتا عن سدادها تزج بها في السجن لعدم الوفاء بالدين، وتدفع تشيلا إلى عرض جزء كبير من مقتنيات أسرتها للبيع. فجأة وبدون أي استعداد لمواجهة الحياة، تجد تشيلا منزلها مرتعا لأقدام غريبة تأتي لتقتحم خلوة المنزل ولأيد تفحص الممتلكات الأنيقة من الثريات وكؤوس البلور والأثاث الفاخر.
لا تواجه تشيلا الأغراب الباحثين عن تحفة بسعر ملائم وسط ممتلكاتها، ولكنها تنتظر بوجل عن بعد عبر انفراجة صغيرة في الباب، بينما تتولى صديقة أو الخادمة شأن التفاوض في السعر. هذا الباب الذي تقف خلفه تشيلا هو صورة لحياتها كلها، فهي دوما تلوذ ببيتها عن مواجهة الحياة ومعرفة ما هو خارج الأبواب. يمنع التعفف تشيلا من طلب العون المادي من الصديقات في محنتها، ولكن العون يأتي من حيث لا تحتسب، حين تطرق الباب جارة مسنة لتطلب من تشيلا أن توصلها بالسيارة في رحلتها الأسبوعية للقاء بالصديقات. وفجأة تجد تشيلا أن سيارتها قد تحولت لسيارة تاكسي للنساء اللاتي يفضلن صحبتها وسيارتها المرسيدس العريقة على السائقين الرجال.
تبدأ تشيلا رحلات السيارة على استحياء وبدون شغف كبير، ولكنها تكتشف أن هذه الرحلات لتوصيل النساء تفتح لها الباب لمعرفة المجتمع الذي عاشت طويلا معزولة عنه، تكتشف نساء في عمرها يعشن حياة تختلف عنها، تكتشف أن العالم الخارجي ليس قبيحا أو مخيفا، وتجد المتعة فيه. عالم تشيلا وعالم النساء اللائي توصلهن بسيارتها يكاد يخلو من الرجال. هن نساء يجدن السعادة في صحبة بعضهن بعضا، ويجدن العون في بعضهن بعضا. الرجال في الفيلم إما زائدون عن الحاجة أو مصدر لخيبة الأمل كعشاق أو أزواج. لعلّ مارتنيسي يود أن ينتصر للمرأة ويجعل لها الغلبة ويجعل صوتها مسموعا في مجتمع يهيمن عليه الذكور. الإرث الذي يعنون الفيلم ليس فقط الممتلكات المادية، ولكنه الإرث المعنوي والتراثي الذي يثقل كاهل المرأة، الإرث الذي يصر على أن حياة المرأة لا تكتمل إلا بوجود رجل. يخلّص الفيلم المرأة من هذا العبء الثقيل: الرجل.
ولعل أهم ما يميز الفيلم هو حساسيته البالغة بالمرأة ومشاعرها، ويؤكد فيه مارتينيسي، الذي كتب أيضا سيناريو الفيلم، إن المرأة في خريف عمرها تصبو أيضا إلى الحب والعشق، ولها رغبات جسدية ونظرة ترنو بها إلى من تعشقه. تلتقي تشيلا في رحلاتها بالفاتنة أنجي (آنا إفانوفا)، وهو اللقاء الذي تكتشف به تشيلا أنها لم تعد تجد ما يرضيها في علاقتها التي دامت دهرا. نظرات مختلسة على استحياء تتحول إلى شغف حقيقي ورغبات كانت تشيلا تظن أن زمنها ولى وانقضى.
إنه فيلم ينتصر فيه مارتنيسي للمرأة ويقف معها في اختيارها للحرية وللاعتماد على الذات. من تشيلا التي توصد الأبواب وتترك التعامل مع المشترين لأثاث الأسرة للخادمة، إلى تشيلا التي تقرر الخروج من علاقة قيدتها على مدى سنوات والخروج إلى العالم خطوات كبيرة من الثقة والحرية والتمرد واكتشاف الذات.
ينهي مارتنيسي الفيلم بنهاية تحمل من الأمل والضوء الكثير. بوابة مفتوحة مشرعة يدخل منها الضوء، بوابة المنزل، الذي غادرته تشيلا بحثا عن حياة أكثر رحابة. فيلم مرهف أُنجز بصنعة سينمائية عالية الإتقان والجودة عن نساء يتوقون للحرية ويجدنها. فيلم نسائي صرف مشاعره صادقة مرهفة أنجزه رجل يفهم المرأة وصوتها ورغباتها الدفينة.
أداء مرهف للغاية من برون في دور تشيلا. أداء هادئ رقيق كشخصية تشيلا التي تتلطف في اللفظ والنبرة والكلمة، والتي تبدي الكثير من الوجل في تعاملها مع العالم الخارجي، وجل يخفت تدريجيا مع الثقة التي تكتسبها في تعاملها مع الحياة.
فيلم «الوريثات» لمارسيلو مارتينيسي: رحلة امرأة إلى الحرية والخروج من العزلة

m2pack.biz