كاتب ياسين… في رحلتي الدم والشتات

كاتب ياسين… في رحلتي الدم والشتات

كاتب ياسين… في رحلتي الدم والشتات

خطآن وقع فيهما كاتب ياسين: أولاً، حين تخلى عن الشعر والرواية، بحجة أن «الشعب» (وهذه كلمة تحتاج إلى تعريف مفصل) لا يفهم كله الفرنسية، ووجب مخاطبته بالعامية، وثانياً، حين انسحب إلى سجالات زائلة وخصومات موسمية شوشت النظر إلى صفته الأساسية ككاتب.
بعد حوالي ثلاثة عقود من رحيله، بات كاتب ياسين (1929- 1989) يُختصر في قاموس من المصطلحات المُبالغ فيها: الماركسي، الوطني، الثوري، المُتمرد.. هكذا إذن، واحدة من أهم التجارب الأدبية المهمة، في شمال إفريقيا إجمالاً، صارت تنحصر في تسميات سريعة، تتكرر، كل عام، مع اقتراب ذكرى وفاته (28 أكتوبر/تشرين الأول)، وهي لا تعبر عنه بدقة، فكاتب ياسين لم يقم بثورة، في العلن، ولم يكن يبحث عن الإثارة من الخارج، بل ثورته كانت من الداخل، كانت ثورة على نفسه. ياسين الذي كتب «الشاعر باعتباره ملاكماً» كان يُلاكم نفسه، يعتبر ذاته خصماً له، كتب ونشر، لكنه لم يترك لنا مذكرات أو شهادات كافية لنفهمه أو ندرك شيئاً عن حياته الداخلية، والوثائق الوحيدة، التي نتوافر عليها، لفهم ما غاب عنا، هي مقالاته الصحافية، التي تمثل المستندات الأهم للتقرب من سيرته، ولنفهم مجدداً بأننا ظلمناه بتسميات جاهزة، لم ينسبها هو لنفسه، أفسدت على القارئ بعد وفاته مُطالعة أعماله بحيادية.
لحظتان مهمتان صنعتا كاتب ياسين «الكاتب». لحظة أولى يعرفها الجميع، ووردت في سيرته، ولحظة ثانية تلتها، ولكن نادراً ما نهتم بها. بداية، أحداث 8 مايو/أيار 1945، التي سقط فيها الآلاف من الجزائريين، الذين خرجوا في مظاهرات شعبية للمطالبة بالاستقلال، وشارك فيها ياسين، ودفع بسببها ثمناً: ثلاثة أشهر سجناً. كانت تلك الأحداث الدامية نقطة تحول جوهرية في وعي المُراهق آنذاك الذي لم يكن يتجاوز السادسة عشرة من العمر، ستحيله إلى عزلة نسبية، ثم إلى الشعر، وكتابة أول نص له: «مناجاة» (1946). ثم لحظة ثانية، ليست تقل أهمية عنها، وهي خروجه من الجزائر، وتيهه شرقاً، كصحافي ورحالة. بدأ كاتب ياسين نشر مقالات في جريدة «الجزائر جمهورية»، بتحفيز من محمد ديب، ثم انتقل إلى جرائد ومطبوعات أخرى. لم يكن يكتب فعلاً مقالات، ولا يهتم بتدوين تقارير ولا التعليق عن الأحداث، كان بالأحرى يكتب عن نفسه في الجريدة. كان يكتب قصصه وأمنياته. كان الترحال نحو اللاهدف، أو نحو الشتات، سبباً في تلك الكتابات الصحافية، ووثيقة مهمة في فهم حياة الكاتب.
لو استقر ياسين طويلاً في الجزائر، في حقبة الخمسينيات، لكان ربما تحول إلى كاتب بيانات سياسية، أو إلى شاعر حماسي، أو كان ربما سيتخلى عن الكتابة لصالح السلاح، أو ربما كان سيستشهد شاباً، لكن تجربة السفر صالحته مع نفسه، ومع الأدب وبعثته من جديد. السفر كان رحلة كاتب ياسين في اكتشاف نفسه واكتشاف بيته: الأدب. الشيء الوحيد الذي كان يحرص على حمله في حقيبته هي أوراقه. رواية «نجمة» (1956)، التي تمثل ذروة التحول في الرواية الجزائرية، كتبها وهو على سفر، على ورق تلكس. فقد كان كلما ابتعد جسدياً عن الجزائر، عاد إليها روحياً. كان يتحرر من ثقل تاريخ الأجداد، ومن وقع الأحداث التي كان يعيشها بلده بالترحال، بابتكار شخصيات ثانوية له أو بحمل أقنعة: سائح، مستكشف وصعلوك. كان كلما وصل إلى أرض جديدة اتسع حلمه، وخصبت ذاكرته ووجد سبباً للكتابة.
الظاهر أن كاتب ياسين قد تحول من «أيقونة» إلى «ضحية»، بسبب إسراف من آمنوا به، في حصره ضمن حيز ضيق من المواصفات، ومن المقولات المفصولة عن سياقها، كمقولة: «الفرنسية غنيمة حرب» أو أن «الفرنسية منفى».
كاتب ياسين لم يخض مساراً كلاسيكياً للوصول إلى الكتابة، لم يكن قارئاً نهماً، ولا مشتغلاً في الأدب، بل كان يقرأ القليل فقط، ويكتب انطلاقاً من تجارب إنسانية. هو لم يُحاول أن يقدم نفسه كمجدد أو رائد في الأدب الحديث، بل اكتفى بالكتابة، ثم تركها في وقت لاحق، خصوصاً في آواخر حياته، وانشغل بصراعات سياسية جانبية. أعلن حربه على الكولونيالية، ثم ضد أولئك الذين سرقوا استقلال البلد. ولم يكن ياسين يستعيد صفته ككاتب سوى في الخارج، خلف حدود البلاد التي كتب عنها، لم يكن كاتباً إلا حين يغادر الجزائر. أما في الجزائر، فقد تحول إلى مُعارض ومسيس ومُلاكم وأشياء أخرى بعيدة عن الأدب. لقد صار شاعراً في السجن، وروائياً في الشتات، وحين عاد إلى بلده، بعد الاستقلال، حاولوا نزع صفة الكاتب منه، تجريده من حقه، ونفيه في وطنه.
بالعودة إلى مقالات صاحب «المضلع النجمي» ندرك أنه لم يكن يحاول أن يمرر قناعات أيديولوجية له، ولم يسع لفرض منطق على القارئ، لم يكن يظهر من مقالاته على أنه يساري أو يميني، كان كاتب ياسين يكتب عن الإنسان، عن لحظات تأمل، عن آماله وأحلامه الصغيرة، عن أناس بسطاء كان يقابلهم في الشوارع أو في أمكنة ضيقة، عن مشاهد عابرة صادفها في صحراء أو في مدينة، كان ياسين الكاتب يتقمص صفة الصحافي ليحكي عن نفسه، بالدرجة الأولى، لا أن يسرد لنا وقائع وأحداث جرت في أزمنة مضت ولا أن يتخندق في مربعات سياسية.
لكن، في ما بعد، سيصطدم ياسين بالانقلابات التي حصلت في الجزائر، وصحوة التدين الزائف، في البلد، مع ما رافقه من تواطؤ من النظام السياسي، ما جعله يبدو صدامياً في مواقفه وفي تصريحاته ضد السلطة السياسية، لكن الأمر لم يكن يتعدي الالتزام بموقف، من مثقف نقدي، كان يعيش في عمق المجتمع الجزائري، وكان من المفترض ألا يخرج الأمر عن هذا الحد، لنمنح القارئ دائماً فرصة العودة للأهم: كتابات ياسين، النثرية والشعرية والمسرحية، لكن بعد وفاة الكاتب، حصل انزلاق آخر، في لحظة اشتباك مع رجال دين، راح بعض اليساريين، أو بالأحرى قدامى اليساريين، يوظفون كاتب ياسين، في غير مكانه، يستخدمونه سلاحاً لهم في مواجهة الملتحين، وهم لا يدركون بذلك أنهم يسيئون لسيرة الرجل ولتركته الأدبية. منذ وفاتة، تحولت ذاكرة كاتب ياسين إلى سلاح في معركة لم يفكر هو نفسه في خوضها، صار يُستخدم اسمه وكلمات له، مفصولة عن سياقاتها، في منازعات ثقافية، بين علمانيين ومتأسلمين، وتعتبر هذه واحدة من الخسارات الفادحة، التي تُسيء لكاتب ياسين أكثر مما تخدمه.
٭ كاتب جزائري
كاتب ياسين… في رحلتي الدم والشتات
سعيد خطيبي
المقاربة مهمة..كان كان كاتب ياسين عكس ما يشاع عنه تماما..لو عرفنا علاقته بامه و من هو ابوه و علاقة بعائلة مصطفى كاتب المسرحي و السنمائي الجزائري و مدى خوضه في عوالم الامير عبد القادر و بن عربي و لو تدبّرنا اصله العربي الخالص ( إذ الرجل لم يكن أمازيغيا ابدا)..لعرفنا كيف يمكن ان يغترب النص و كاتبه مرّتين..مرّة من قبل القراء و المناضلين باسمه و مرّة أخرى من قبل الأنظمة الشمولية البائسة..

m2pack.biz