“كوبا والكاميرامان” لجون ألبرت بلد منكوب، شعب فخور!

“كوبا والكاميرامان” لجون ألبرت: بلد منكوب، شعب فخور!

“كوبا والكاميرامان” لجون ألبرت.. بلد منكوب، شعب فخور!

“كوبا والكاميرامان”، أحدث أفلام المخرج الأميركي جون ألبرت، سبق ان شارك في “موسترا” البندقية العام الماضي، وكان له عرض في مهرجان تسالونيك للأفلام الوثائقية (٢ – ١١ الجاري) غداة افتتاحه. انه أحد هذه الوثائقيات التي تعرف كيف توفر متعة مشاهدة، فنخرج من الصالة بغبطة لا توصف، رغم مأسوية الموضوع الذي يناقشه. وهذا ما حصل العام الماضي عندما اكتشفنا، هنا، “هاوستن، لدينا مشكلة!”، عن الأزمة السياسية الخيالية بين الولايات المتحدة ويوغوسلافيا سابقاً.
السبعيني جون ألبرت، صحافي ومخرج وثائقي فائز ب”أوسكار”، أمضى نحو نصف قرن متنقلاً بين الولايات المتحدة وكوبا. كان شاهداً على أشد المراحل صعوبةً في تاريخ الدولة المحاصَرة، منذ السبعينات حتى سقوط الإتحاد السوفياتي الذي كان وقعه أليماً على حياة الكوبيين. سيرة ألبرت متداخلة بشكل لافت بسيرة الزعيم فيديل كاسترو (١٩٢٦ – ٢٠١٦). فهو بدأ يلتقي كاسترو ويحاوره منذ مطلع السبعينات، ورافق ال”كوماندانتي” في رحلته الشهيرة إلى نيويورك في العام ١٩٧٩ ليلقي خطاباً في الأمم المتحدة. هناك مواد أرشيفية وريبورتاجية تخرج إلى العلن للمرة الأولى، تحاول البحث في جوانب “أخرى” من شخصية كاسترو، فنكتشف انها مطابقة إلى حدّ ما لصورة القائد الفخور والعنجهي الذي يخطب أمام الجماهير في هافانا.
فيديل كاسترو في لقاء مع ألبرت.
إعجاب ألبرت بكاسترو صعبٌ اخفاؤه، ويصل إلى الذروة في سعيه للقاء أخير به قبل وفاته بفترة قصيرة. الفيلم يولد من هذا التعايش بين الإعجاب بشخصية ونقد تجربتها الفاشلة. قلة فقط قادرة على الامتداح بلسان، والمحاسبة (السينمائية) باللسان نفسه.
ألبرت وثّق كلّ هذه الأحداث التاريخية ليس ليصنع فيلماً شعبوياً على طريقة مايكل مور، أو تحليلاً سياسياً منمقاً يأخد من أرول موريس نموذجاً له. فهو يتفرد في طرحه الذي يقف في منتصف الطريق بين منهجين، الجاد والخفيف، الشخصي والعام، السياسي والإنساني، الخ. لذلك، كما يشير العنوان، هذا الفيلم هو عن ألبرت بقدر ما هو عن كوبا. في الواقع، كان الصحافي معجباً بالتجربة الكوبية في بداياتها، وخصوصاً ما يتعلق بالنظام التعليمي والصحي والسكني المتوافر للجميع، فوجد في الإنجازات التي حققتها الثورة الكوبية صدى لما كان يحارب من أجله في أميركا. “شيء ما كان يحصل خلف الحدود، شيء كنّا نحلم به في أميركا”، يقول ألبرت.
السبعينات في كوبا.
مثّلت كوبا مختبراً للأفكار والتجارب، تحمّس له ألبرت، اليهودي الإشتراكي، قبل ان يتحوّل النبيذ خلاً وتتهاوى الأحلام سريعاً لتصبح كوبا ديكتاتورية يُسجَن فيها المعارضون، ومَن منهم يبقى حراً يختار المنفى. ولكن قبل الوصول إلى هذه النقطة من الفيلم، لا بد من تسجيل الإعجاب بطبيعة التواصل التي نشأت بين ألبرت وكاسترو والتي تخدم الفيلم. تواصل من الند للند، كان ألبرت ينادي فيه كاسترو باسمه الأول (فيديل)، ومع ذلك فهو حافظ على شيء من الموضوعية، مع اعطاء كلّ ذي حق حقه. نحن في هذا الفيلم إزاء مدرسة صحافية من زمن آخر، لا تشبه في شيء ما نشهده اليوم. نجهل ما الذي جعل كاسترو يثق بألبرت، ربما بساطة الشخص الذي يقف خلف الكاميرا، وهي أداة سلطة للبعض ومحاولة فهم للبعض الآخر. ألبرت، كما يروي في احدى المقابلات، العصامي، ابن الشارع النيويوركي، عمل سائق تاكسي قبل ان يختار الصحافة، ولم يدرس السينما أكاديمياً.
يمنح “كوبا والكاميرامان” أهمية بالغة لعامل الزمن. فهو مشبع به وشرط من شروط رسم مسار الثورة الكوبية وانهيارها. من خلال ذهاب وإياب يستغرقان ٤٥ عاماً بين كوبا والولايات المتحدة، ثمة صداقات وعلاقات وألفة تنشأ، ليس فقط مع المكان بل مع الناس، وهذه هي النقطة التي يتفرد بها الفيلم، اذ ان كاسترو لا يحتل الا جزءاً منه، فيما المتن مخصص لثلاث عائلات يُتابع ألبرت شؤونها عبر الزمن، وصولاً إلى الظروف الحالكة في التسعينات. هذه اللحظات تمثّل الشقّ العاطفي للفيلم. فنرى التحولات ليس من خلال شهاداتها فحسب، بل من خلال آثار يتركها الزمن. في غضون ذلك، تبقى كوبا على حالها. تنهار إقتصادياً لتصبح في الآخر مقصداً للسيّاح. على مرّ الزمن، تتطور آلات التصوير التي يستخدمها المخرج، لكن كوبا تراوح مكانها.
الأخوة الثلاثة مع ألبرت.
الحكاية الأكثر تعبيراً هي حكاية الأخوة المزارعين الثلاثة الذين يزورهم ألبرت سنة بعد سنة، فنراهم يشيخون أمام كاميرته، وهي تختزل حكاية صمود الكوبيين الشرفاء بلا لمسة شفقة. بشر يتشاركون كأساً من الروم مع المخرج ويفتحون له قلوبهم بلا مقابل. في هذا الفصل من الفيلم، يصوّر ألبرت بلداً منكوباً، مواطنوه يحافظون على حد أدنى من الكرامة البشرية، ولا ينقصهم الفخر والاعتزاز. مستنداً إلى العامل البشري أكثر منه السياسي، يتعاطى الفيلم مع التأثير المباشر للثورة والحصار الأميركي في حياة الكوبيين. في التسعينات، عندما يفتح المواطن برّاده ليرينا ما يحويه، فهذا يعفي المخرج من أي خطاب أو تحليل سياسي. هل يوجد أبلغ من الجوع لإدانة منظومة كاملة؟
(*) الفيلم متوافر على
http://www.netflix.com/

m2pack.biz