لم تخطىء المدينة فلماذا العقاب؟
ألجزيرة التي طُرد منها الصيادون وهدمت أكواخهم لتقام بدلا منها، بعد أن وصلتها جسور بالمدينة القريبة، أبنية زجاجية ضخمة ومهابط طائرات لرجال الأعمال، لم تصمد طويلا. حلّت بها لعنة، وربما حلّت اللعنة بالمدينة أيضا. بدأ ذلك بتأخّر حاكم المكانين معا عن حضور احتفال خطابي، ثم بعد انقطاع الرجاء بمجيئه، ثم اختفائه، فظهوره بعد ذلك، مرتعبا هاذيا وفي هيئة متشرّد أو متسوّل، ثم زواله (من الرواية) بعد اتخاذ اللعنة أشكالا أبوكاليبتية راحت تصيب المدينة والجزيرة والمياه البحرية والنهرية التي بينهما. فتهدّمت الجسور، وتساقطت الأبنية وحلّ الجفاف، ثم ظهر مدٌّ غريب لم ير الناس هناك مثيلا له.
ولنضف إلى ذلك حوادث من تواريخ سحيقة مثل قارب، رغم صغره، يرمز إلى سفينة نوح، وحوت ينفق في المياه الضحلة منذرا بانتهاء الحياة، مبطلا التذكير، فيما نحن نقرأ فصول الرواية، برواية هرمان ميلفيل عن الحوت. فهنا، في خرائط يونس، الحوت مختلف عن سابقه، موبي ديك. فهو ليس القويّ المجهول، المنتظَر اقتحامُه وهجومه، بل هو هنا، في هذا الكتاب الصغير، راوية حياته، بادئا من أصل ولادته «من أم هي حوت حدباء ومن حوت أزرق»، وها هو يتساءل «..كيف سأعيش وليس في إمكان أحد أن يفهمني، حتى أبي وأمي».
ألحوت الذي تبدأ الرواية صفحتها الأولى بوصفه لاحتضاره وهو»يجتاز بوهن، واستسلام للموت، أسبوعه الأول بعد تجاوزه السبعين» لا يلبث أن يظهر في الرواية حتى يغيب، ليستأنف بعد ذلك حضوره. مرّة يكون هو الناطق لما مرّ به في حياته، في مرة أخرى نراه طيفا جاثما في منامات الرجل القيّم على المكتبة، بطل الرواية؛ في مرّة ثالثة نراه، في مقدّمة الرواية كما في نهايتها، ممدّدا بجسده الضخم الواهن ينتظر موته. هو أكثر حضورا في الرواية من القطة العمياء، تلك التي تحضر في منامات «علا» (معشوقة الرجل أمين المكتبة، والمنفصلة عنه، فيما تتعاقب في الرواية المحاولات الفاشلة لالتقائهما من جديد) ولا تظهر هذه القطة العمياء حقيقة متجسّدة إلا لرجل المكتبة، صغيرة لا يتعدى عمرها الثلاثة أشهر، تموء في عمائها بإزاء القارب المتهيىء للإبحار، بما يذكّر مرّة ثانية بسفينة نوح.
أشياء كثيرة أخرى تُظهرها الرواية من دون ضرورة بنائية لها. من ذلك الفتاة الصغيرة الهاربة من خراب المدينة، أو خراب الجزيرة السريع، التي ستلازم رجل المكتبة، محتمية به مما سيحمله خراب المدينة. ومن ذلك منزل هذه الفتاة الذي يضاف إلى الأمكنة التي تصفها الرواية، أو أهلها اللذان اختفيا من دون أي ذكر لهما، ثم شرطة المدينة التي لا تظهر إلا لدى اختفاء الحاكم وظهور أولى علامات الكارثة التي تحيق بالمدينة. وأيضا طائرة الهيلوكوبتر التي سقطت لحظة بلوغها نقطة الوصول فوق الجزيرة. هو ظهور لا يُستكمَل غالبا، يسقط من بين متاع الرواية بعد أن يكون واعدا بحضور تالٍ فيها، أو بأن يذهب قدما إلى المصير الذي كان مقدّرا أن يوصله الروائيّ إليه.
هنا عوالم مستعادة من زمن أسطوري قديم تتعايش مع ما ينبثق من تقنيات حضارة حديثة: طائرة الهيلوكوبتر المحلّقة، قبل هبوطها، فوق شيء غير مفهوم؛ بناء الجزيرة الحديث، والسريع الإنشاء حيث تقام الأبنية الشاهقة ومهابط الطائرات ومراكز الأعمال في المكان الذي لم يتخلّص من زمنه التوراتي بعد. ثم هناك الزمن الضائع حيث تبدو المكتبة صرحا قديما لم يعد يقصده أحد، محيّرة قارىء الرواية كأن يظن أنه يقرأ عن منارة يقيم فيها حارسها وليس مكتبة تفتح أبوابها، في زمن ماقبل الكارثة، لقاصديها من سكان المدينة.
وكل شيء قابل لأن يتحوّل إلى عكسه، أوإلى عكس طبيعته. من ذلك أيضا أن الغيوم كثيفة لكن السماء لا تمطر؛ ألأشجار كثيفة لكنها بلا خضرة؛ وهناك في مجرى النهر لم يعد من مياه. وها هو الحوت يقول، في مناجاته نفسه: «أشعر بأنني أعرف هذا المكان. أعرف بأن ثمة من أعرفه في هذا المكان، لكن كيف ذلك وأنا لم أقترب من مياه عذبة طيلة حياتي».
عوالم متناقضة تتداخل وتتمازج. ربما كان في أساس ذلك، أو في أوّله، تداخل الشعر بالرواية، وتداخل الإثنين بالوعي الأسطوري. نلحق ظلما بهذا الكتاب إن بقينا مصرّين على إرجاعه إلى واحد من هذه الأنواع الكتابية، كأن نفترض، متّبعين كلمة «رواية» التي وضعت على غلافه، أننا نقرأ رواية فيما، في مواقف منها، أو في صفحات، نكون أقرب إلى الشعر، أو إلى التداعي الخيالي أو الرؤيوي.. إلخ.
خرائط يونس» رواية محمود حسني، صدرت عن دار الساقي في 140 صفحة في طبعة أولى 2018.
٭ روائي لبناني
لم تخطىء المدينة فلماذا العقاب؟
حسن داوود