هي سعادة في حاضر سيصير ماضيا

هي سعادة في حاضر سيصير ماضيا

هي سعادة في حاضر سيصير ماضيا

كان يمكن أن تكون تلك الحكاية قصّة حديثة لو أبقى ذلك التاجر اليمني معشوقته الميّتة في بيته. لم يطق موتها ولا أن تكون مدفونة تحت التراب، فانتشلها من قبرها، وجاء بها إلى بيته، ثم أجلسها على أريكة لتبدو، له وحده، كما لو أنها ما تزال على قيد الحياة.
مشهدها ذاك، ميّتة لكن متزيّنة ومرتدية أبهى الملابس، وجالسة كأنها تنتظر قدومه إليها، كان يمكن لمخيّلة مغامرة أن تستأنفه، أي أن تصنع مغامرة كتابية من ذلك المشهد الغريب المتقاسَم بين الموت والحياة. شيء في المرأة («المرحومة»، بحسب عنوان الحكاية، وعنوان الكتاب من ثمّ) قد يوهم ببقائها حيّة، رغم موتها الأكيد، ربما هو»شكلها» الكامل التام. ولم تصب الحيرة التاجر اليمني إزاءها، تلك التي أصابتنا نحن، قرّاء حكايته. فبدلا من ان يقف متسائلا ماذا عليه أن يفعل، على نحو ما رحنا نتساءل، أقبل عليها وجعل يحتضنها ويقبّلها ويبثّها لواعجه.. فكان ذلك أوّل سقوط لحكايته في الرتابة التخيّلية المميّزة لقصص ذلك الزمن.
ثم صدف أن تاجرا من معارفه رآها جالسة فأعجب بجمالها، وراح يحاول مواقعتها في غياب عشيقها، فاستفاقت. كانت حيّة إذن، وهي أنزلت خطأ في القبر. وكانت هذه السقطة الأخيرة التي لا رجوع عنها لفكرة الحكاية المفاجئة. فما أعقب ذلك هو سرور التاجر اليمني بعودتها إلى الحياة، ثم مفاتحتها بحبّه الذي أدى به إلى إخراجها من القبر، ثم ذهابه بها إلى أهلها الذين قبلوا به زوجا لها هذه المرّة، بعد أن رفضوه في مرّة سبقت، «ودخل بها، وقعدوا في أطيب عيش وأهناه».
فقط في تلك الفكرة الأولية أمكن لذلك القاص، المملوكي، أن يتجاوز الترتيب التقليدي للقصص المشابهة التي تحتوي على اثنتي عشرة قصة منها، كتاب «عاشق المرحومة وقصص أخرى من التراث العربي». هناك بنية واحدة للقصص جميعها، وهي أن ينقلب الزمان على من كان ثريّا، وعلى من كان فقيرا أيضا، فينقلب حاله رأسا على عقب. الحيلة أو المكيدة هي التي تفقر الغنيّ، وفي حالة واحدة فقط، كما في قصص الكتاب، أن يسمع نبوءة من أحدهم بأن هذا المال سينتقل منه إلى سواه، فيستجيب للنبوءة ويضع ذهبه في مصباح مختوم ويرميه في البحر وهو يقول: «أرميه إذن، هذا الذهب لا لي ولا له». أما انقلاب حال الفقير فيأتي غالبا من أن يعطى المال من امرأة، جميلة في الغالب، على دفعات، تبدأ أولاها بألف دينار، ثم متجاوزة ذلك حتى تبلغ الخمسة آلاف، كلما عادت المرأة إلى زيارته.
والمرأة هي جميلة غالبا تطنب الحكايات في استحسان جمالها، وليس في وصفه أو تعيين مواضعه: «جارية من بلاد الخط ما رأت الناس في ذلك الزمان أحسن وجها منها». وحين توصف فبأوصاف جاهزة سلفا «كأنها غصن بان أو قضيب خيزران» أو «كأنها البدر المشرق»، بما يجعل الجميلات امرأة واحدة فيصير مَن يسمع الحكاية، أو يقرأها، يستخرج من مخيّلته، أو من ذاكرته، امرأة هي ذاتها مع كل قصة.
أما اللقاء بين الشاب والحسناء فيجري حول مائدة الطعام التي يطنب الراوي، أيضا، في تعداد ما تحتويه. المائدة حاضرة دائما، ومن بعدها الشراب الذي أكثر ما يرد ذكره من أصنافه هو الفقاع (وهي البيرة، وقد سميت بالفقاع لكثرة الفقاعات التي تظهرعلى سطحها عند صبّها). ثم قد تجري الواقعة بينهما وقد لا تجري. أما اجتماع الاثنين فيحصل في الخفاء، وتستدعيه غالبا شهوات مغامِرة تباشرها النساء. في «حكاية نور الدين الدمشقي وما حصل له مع محظية السلطان» تروي المحظية قصتها فتقول «أنا من محظيات السلطان محمد بن قلاوون، ونحن أربعون محظية وقد طلبنا الإذن منه بالبروز إلى المدينة، فسمح بيومين في الجمعة، الخميس والاثنين. وقد اتفقنا مع بعضنا أن كل واحدة تأخذ لها معشوقا يكون لها وحدها دون صاحبتها. فكل منا أخذت من أحبّت واختارت».
ولأن انقلاب الأحوال بين الفقر والغنى حاضر على الدوام يتداول على القصص شبان فقراء وتجار (فيشكل السوق المكان الذي تتوزّع منه الأمكنة الأخرى، قربا أو بعدا)، كما يحضر في الحكايات الأمراء والحكام وحتى الخلفاء. فالناصر وابنه، وكذلك الأمين والمأمون وكذلك الحاكم تنكز الذي وُلّي نيابة دمشق، وهارون الرشيد الذي يرد ذكرة في الكثير من القصص، وكذلك في بعض فصول «ألف ليلة وليلة» ما جعله أكثر الخلفاء حضورا في المخيال الشعبي العربي. دائما ينزل الخليفة أو الحاكم إلى القصة، ليغدق المال والذهب بمقادير تبدو مذهلة وصعبة التصديق، إما على الجواري أو على من يقف الحاكم إلى جانبه في النزاع الذي تنقل الرواية واقعته.
هي حكايات بحركة قص متكرّرة تنتهي بأن يحظى العاشقان بالقبول والرضى من الأهل وسواهم، أو يجتازان ما كان قد دُبّر لهما. فهذا الإسكندري الخياط حظي بموافقة تنكز على زواجه من ابنته، كما خلعت عليه الدويدارية وأعطي ثقلا وجملا وأموالا ونوال، «وحملت له الأمَرَا والعساكر والقضاة وأهل الشام من الأكابر الهدايا والتحف وصار من أكابر الأمرا». أما الزمن الذي أعقب تلك الهناءة والسعادة فتوجزه كلمات قليلة هي: «وقعد هو وزوجته في أطيب عيش وأجمله وأهناه». هكذا بما يذكّر بكلمة «النهاية» التي تبدو لمشاهد الفيلم العربي كأنها أوقفت، لانتهاء الفيلم، السعادة التي تحقّقت للعاشقين، شادية ورشدي أباظة مثلا، ولم ترِنا شيئا من تلك السعادة التي بقينا نترقّب مجيئها طيلة مشاهدتنا للفيلم. أما هنا، في قصص التراث العربي، فالسعادة الخاطفة لن تلبث أن تحبطها الجملة التي تأتي بعدها والتي لن يغفل عنها كل راو أو كاتب قصص وهي: «إلى أن أتاهم هادم اللذات ومفرّق الجماعات ومخلي القصور من أهل العزّ والرايات».
دائما، في الحكايات والقصص، يعقب الموت لحظة السعادة الأخيرة. إن كان لا بد من الوصول إلى نهاية فالنهاية الأخيرة، النهاية الثانية، هي الموت. هما نهايتان متلازمتان، أولاهما لتحقيق الغاية وثانيتهما لمجيء القضاء الأخير. أليست كذلك هي النهاية إن كان علينا أن نضع حدّا لما يحدث للبشر، يقول كاتب القصص العربي.
كتاب «عاشق المرحومة وقصص أخرى من التراث العربي» حقّقه وقدّم له محمد ومصطفى الجاروش وصدر عن دار الجمل في 157 صفحة.
روائي لبناني

m2pack.biz