«البرق وحلم المطر» للمغربية نادية الأزمي… احتفاء باهر بـ«ثيمات» السرد وتقنياته

«البرق وحلم المطر» للمغربية نادية الأزمي… احتفاء باهر ب«ثيمات» السرد وتقنياته

«البرق وحلم المطر» للمغربية نادية الأزمي… احتفاء باهر ب«ثيمات» السرد وتقنياته

تفتقر الدراسات النقدية العربية إلى النقد التطبيقي افتقاراً شديداً؛ وإذا راقب المرء المشهد النقدي العربي أمكنه أن يجد أنواعاً مختلفة من المعالجات النقدية التي تترجّح بين أن تكون نقداً تنظيرياً رفيعاَ يفيد من الثقافة والذائقة، وبين أن تكون انطباعات ساذجة حول إبدعات جديدة، تتلقفها الصحف التي تستهلك كلّ شيء..
وبين هذا وذاك نطالع دراسات تعلي شأن المصطلح الأجنبي، وتتباهى باستخدامه، أو تحاول محاكمة النص الأدبي بمنطق سرير بروكست، فلا ترى من النص إلى ما يوافق أهواءها، وما يطايق نظرتها المسبقة. فإذا ظفر المرء بكتاب ينتمي للنقد التطبيقي، وينطلق من النص أساساً ليصوغ مقولته ورؤيته، فإن من حقّه أن يشعر ببعض التفاؤل والفرح.
من هنا فإن من حقّنا أن نسعد بكتاب الباحثة نادية الأزمي، الذي صدر مؤخراً في المغرب، وحمل عنوان «البرق وحلم المطر قراءات في القصة العربية القصيرة جداً»، ومن حق القارئ علينا أن نسوّغ له سعادتنا التي تعود إلى سببين، أولهما يتعلق بمنهجية الكتاب، والثاني يرتبط بمكانته في حركة التأريخ النقدي. فالكتاب أولاً ينطلق عبر دراساته ثلاثة عشر نصّا من النصوص التي كتبها أصحابها المنتمون إلى أقطار عربية مختلفة، وتمتاز معالجاته النقدية بذائقة نقدية عالية. وإذا كان ثمة خلافات منهجية بين دراسة وأخرى، فإن ذلك يعود بالدرجة الأولى إلى اختلاف النصوص ذاتها، من حيث موضوعاتها التي تطرحها، ومن حيث شكل تعاملها مع القصة القصيرة جداً.
والكتاب ثانياً يقف إلى جانب كتب نقدية أخرى لا يكاد عددها يبلغ أصابع اليدين، ويعالج بجرأة هموم القصة القصيرة جداً، من منطلق رؤية نقدية تمّكن الباحثة من أن تقف كتفاً إلى كتف إلى جانب نقّاد قليلين تصدّوا لهذا الفن الذي بدأ يفرض حضوره على الجنس السردي العربي.
وما نزال نذكر الظروف التي أحاطت بصدور كتاب «القصة القصيرة جداً» لأحمد جاسم الحسين عام 1998، ومن بعده كتاب «القصة القصيرة جداً بين النظرية والتطبيق» ليوسف حطيني، وما رافق ذلك من معارك نقدية على صفحات الصحف السورية، وقد انتظرنا سنوات أخرى لنرى كتابين ظهرا في العراق، هما شعرية القصة القصيرة جداً لجاسم خلف إلياس، والقصة القصيرة جداً في العراق لهيثم بهنام بردى، ثم انتظرنا سنوات أخرى لتحتل المغرب صدارة الاهتمام النقدي بالقصة القصيرة جداً، من خلال أعلام قدّموا دراسات جادة في هذا المجال، مثل جميل حمداوي وسعاد مسكين ومسلك ميمون ونور الدين الفيلالي، وعبد العاطي الزيّاني، وغيرهم، وأخيراً تأتي نادية الأزمي لتضع بصمتها في هذا المشهد الناصع.
بدءأ من العنوان توجه الباحثة قارئها إلى أنها لا تجامل أحداً، وأنها غير خاضعة لسلطة أسماء الكتاب، وأنّها من خلال «البرق وحلم المطر»، تنظر إلى الجنس الأدبي نظرة ثاقبة، فالقصة القصيرة جداً هي برق، بما تحمله الكلمة من دلالة السرعة والقصر والنور الباهر, وأمّا المطر، بما يحمله من غاية دلالية وبنائية يسعى إليها المبدع، يبقى حلماً يهدف إلى تحقيقه، وللناقد البصير وللقارئ أيضاً أن يقيّما تجربة المبدع، ومدى نجاحه في تحقيق ذلك الحلم.
من هنا فإنّ العنوان يحمل حكم قيمة عاما، يقرأ المرء تفاصيله في القراءات الثلاثة عشر، ولدى باحثتها من الشجاعة لتقول لهذا القاص أو ذاك: ثمة ذهنية تعوّق لغتك السردية، وثمة هلامية تصبغ حكاياتك، وتقف عقبة في طريق الدلالة.
وإذا كان المرء لا يستطيع أن يحدد سمة منهجية عامة (فنية أو موضوعية) تضبط هذه الدراسة أو تلك، فإنه يمكن أن يلتقط خيوط تلك المنهجية إذا نظر إلى القراءات بمجموعها، إذ ثمة مقاربات موضوعية لثيمات بارزة في المجموعات المختارة للدراسة، من مثل ثيمة الجرأة السياسية والاجتماعية عند أحمد جاسم الحسين وطاهر الزارعي، وثيمة الخوف التي يصورها الخطاب المزروعي ويرفضها ويحرّض ضدّها، وصراع الذكورة والأنوثة والموقف منه عند حميد الراتي وعزيزة الطائي، ومن مثل الهم الوطني والقومي عند حميد ركاطة ويوسف حطيني، وغير ذلك. وثمة مقاربات فنية دلالية لأغلفة المجموعات وعتباتها (عائشة الكعبي مثلاً)، وقراءة واعية للظلال والمرايا والمفارقات التي تشكل علامات فارقة في الهوية الشخصية للقصة القصيرة جداً، وثمة اهتمام بالتنويعات الأسلوبية لدى بعض القاصين، وبسمات اللغة الأخرى كالشعرية عند جمعة الفاخري والاحتفال بالتراث وإعادة صياغته عبر سرد حديث عند السعدية باحدة، وغير ذلك من المقاربات التي تندرج في الإطارين المضموني والفنّي.
نحن إذن نستقبل عملاً نقدياً جديداً وجاداً، استطعنا أن نتتبع مسارات برقه، في الصحافة الورقية والإلكترونية من عدة أشهر، ثم لمسنا مطره، يتساقط علينا سحّاً غدقاً مباركاً..
ناديا الأزمي..
هلا.. يا هلا بالمطر.
ناقد أكاديمي من فلسطين
يوسف حطيّني

m2pack.biz