الاسترجاع والاستشراف الروائي
كثيرا ما نتساءل عندما يكتب الأديب عملا روائيا؛ هل ينقل لنا الواقع أم ينقل الواقع المتخيل؟ وهل يعبر عن وضعه الراهن أم عن الطفل الذي في داخله؟ وأخيرا هل يعبر الأديب عن ذاته أم عن ذواتنا التي تنصهر مع ذاته أثناء عملية القراءة؟
حقيقة إن الأديب وهو يتتبع تفاصيل الواقع؛ فإن هذا الأخير يختمر في الذاكرة ثم ينقله الأديب أدبا بأن يضفي عليه ما سماه رومان جاكوبسون أدبية العمل الأدبي؛ وما يمنحه ذلك قدرته على التخيل والتعبير عن مخياله بلغة أدبية خاصة؛ لا يعرف خباياها إلا الأديب؛ يستطيع من خلالها فتح شهية القارئ ويدفعه إلى مزيد من القراءة؛ خاصة إذا كانت لديه القدرة على تحريك المشترك الحياتي الذي ينبش عميقا في الذاكرة وما يعلق بها من تفاصيل وذكريات.
ونحن كقراء عندما نغوص عميقا في تفاصيل المحكي الروائي في رواية «جامع القصاصات» نشعر بأن الأديب المغربي عبد الحميد الغرباوي يتقاسم معنا أحداث روايته بأسلوب حواري شيق؛ في رحلة أدبية إلى العوالم الممكنة وغير الممكنة للذاكرة المشتركة؛ يترصد فيها ذكريات من الزمن الطويل؛ مرة عبر الاسترجاع ومرات عبر الاستباق والاستشراف بين أزمنة مختلفة؛ يستعيد من خلالها وقائع نشعر وكأنها كتبت لنا أو نحن الذين كتبناها؛ فكلنا ذاك السارد الذي جرب المراسلات الغرامية؛ ومارس هواية جمع الطوابع البريدية؛ واستمتع بسلسلة كريندايزر الكارتونية؛ وجمع صور الممثلات العربيات والأجنبيات… تشدنا جميعا بحيلة بنائها السردي الحكائي؛ إلى زمن عاشته أجيال متعددة بصوت يجمع بين الراوي الداخلي بحضور السارد الذاتي المتجلي عميقا في حقل السرد، ومرة أخرى بالراوي الخارجي نفسه الذي يتتبع الأحداث المستذكرة من بعيد، خاصة عندما تنفتح الذات الساردة على الماحول – مكاني. وقد توقف الأديب عند الغاية من هذه الهوايات؛ وهي أنها ذات أهداف تربوية جمالية؛ تنمي الأحاسيس وترقى بذائقة الشباب في أعمار مختلفة؛ عكس ما يعتقده البعض بأنها مدعاة للخمول والهروب من الواقع؛ مبينا عيوب ما يشغل شباب اليوم من اهتمامات؛ حيث إنهم ينجرون إلى هوايات منحطة تدمر الجمال وتخرب الروح.
ولهذا فإن رواية «جامع القصاصات» هي رواية هاتكة لحجاب الذكريات؛ كاشفة أستار الماضي الجميل فيها حس تربوي؛ فهي من جهة تهدف إلى الرقي بالأحاسيس؛ ومن جهة تسعى إلى تصحيح المعلومة وترسخُها في ذهن المتلقي، سواء على المستوى المعجمي (الانقراض – الإرهاب…) أو على المستوى الإعلامي (ألبرت فيش – بيتر كرتين – دراكولا…) خاصة أننا نعرف أن الأديب عبد الحميد الغرباوي أديب يحمل هذا الهم اللغوي الاصطلاحي؛ بتكريسه في ذهن القارئ بشكل تربوي.
والقارئ ل«جامع القصاصات» يتوصل إلى حقيقة أن الرواية كما يظهر من عنوانها ومن محتواها هي عمل مشترك؛ وكأن ضربا من الاتفاق غير المعلن يسود بين ثلاثة مستويات؛ الكاتب والرواية والقارئ؛ لأن السارد في الرواية يحكي الأحداث الروائية وكأنه يقلب صفحات الماضي بالتركيز على بعض القصاصات البارزة؛ مرة بشكل مفصل ودقيق؛ ومرات عبر فصول موجزة هادفة؛ يريد من خلالها تذكير القارئ بالماضي المنسي؛ بالوقوف على بعض المحطات المهمة التي مر بها أو سمع عنها.
وبأسلوبه هذا يبعث رسالة مهمة؛ وهي أن من واجبات الكاتب تحسيس القارئ بالمخاطر والمنزلقات التي تهوي بقدم الإنسان إلى الهاوية وتنزله إلى الحضيض؛ ولذا ينبغي تصفية الحسابات مع هذه المنزلقات لأنها العائق للطريق الصحيح «لابد أن أبوح كي أصفي حساباتي مع كل الكوابيس.. أطردها؛ أمحوها من ذاكرتي إلى الأبد وأستريح» فالسارد يشعر وكأن ما مر بحياته من ذكريات هي عبارة عن قصاصات مزعجة ينبغي التخلص منها بالتعبير عنها والكشف عن خباياها؛ في رسالة استباقية منه إلى القارئ لكي يتعظ بها ويأخذ منها العبرة «بدأت أفكر في وسيلة أتخلص بها من ملفات قصاصات الأخبار التي تشغل حيزا كبيرا من رفوف مكتبتي؛ والتي تصدع جمجمتي…».
وهكذا يمكن اعتبار رواية «جامع القصاصات» حاضنة للذكريات؛ التي استغرقت حيزا زمنيا طويلا؛ استطاع من خلالها الكاتب تقديم عصارة ما استفاد منه في حياته إلى المتلقي؛ إذ أن الرواية تساهم في الرقي بالفرد والمجتمع؛ لما تحمله من استشراق واستشراف لغد جميل؛ حيث السارد فيها يمثل الشخصية القدوة للقارئ؛ لما يقدمه عبر بوابة السرد الروائي؛ من سلوكيات إيجابية تساهم في تغيير المجتمع، بالقضاء على بؤر الفساد فيه «سوف أخرج لساني وأشهر الإصبع الوسطى في وجه الذئاب البشرية وخفافيش الظلام» ما يؤكد أن من واجبات الكاتب حامل هم الوطن والإنسان أن يثور في وجه الظلم والظالمين المخربين للأجيال الصاعدة. والناظر في الرواية ومن خلال كثير من المقاطع المشابهة لما سبق يشعر بلعبة تشخيص العيوب وفضحها جليا، وذلك بالغوص في أعماق اللحظة السردية حتى يكشف المستور؛ للتحريض على الواقع البائس بإدانته ودفع القارئ إلى إدراك عيوبه وحماقاته؛ ما يشعرنا في مراحل كثيرة من عمر الرواية الفضائي أن الكاتب يريد إعادة إنتاج عالم مثالي جديد يليق باللحظة الراهنة؛ وهذا يؤكد الدور الأخلاقي للرواية باعتبارها ليست فضاء ضيقا مغلقا؛ وإنما هي مجال واسع لإعادة بناء عالم جديد خال من المستنقعات الموبوءة.