عتبة ما قبل الدخول إلى السينما
حدث الكثير في الأيام الخمسة التي قضاها عدنان (أدّى دوره رودريغ سليمان) في باريس. تلك كانت رحلته الأولى إلى خارج لبنان، على الرغم من عمله موظفا في وكالة سفر. حين تلقى من مديره خبر الرحلة، بدا كما لو أن حلم حياته الأول قد تحقّق، بل بالغ في التحقّق.
صعقته المفاجأة ولم يعرف بماذا يردّ على ما سمعه. ولدى عودته إلى بيته كان ذاك الخبر أشبه بمنعطف في حياة الأسرة الصغيرة، بل إنه أرسى الشكوك الأولى بانهيار العائلة، حيث ظهر الرجل، عدنان، متفرّدا بأحلامه ومنفصلا بها عن زوجته. كما كان الخبر مدوّيا بين جيرانه. هؤلاء بدأوا يعترضون طريقه إلى البيت، بعد أن سبقه ذاك الخبر إلى الوصول. ثم، في مشهد الفيلم التالي، تجمع الكثيرون منهم أمام منزله وراحوا يخبطون بأكفهم على الباب. لقد جاؤوا له برسائل وحاجيات وأغراض مختلفة، بينها قفص دجاج وحاويات طعام بلاستيكية وأشياء أخرى، وجعلوا يتدافعون لتسليمه ما يحمله كل منهم كي يوصله إلى أبنائهم أو إلى أقاربهم. هو مشهد مبالغ من سنوات فائتة، تعود إلى أواخر القرن التاسع عشر، واستمر حتى سنوات الستينيات من القرن العشرين. لكن المهم أن تفاصيله، الفكاهية غالبا، سقطت من مخيّلة اللبنانيين، كما من مروياتهم ونكاتهم.
هذه المقدّمات التي سبقت وصول عدنان إلى باريس أشارت مسبقا إلى اختلاط السيناريو وتخبّطه، كما إلى فوات زمنه. ذاك أن الرجل المسافر بدا راجعا خمسين سنة على الأقل في ما جرى له في رحلته القصيرة تلك. ومع أنه يعمل في وكالة سفر، وهذا ما يدعو إلى أن تكون مفاجأته بسفره أقل وقعا مما سبق وحفظته ذاكرة السينما اللبنانية من «بدوية في روما» أو «أبو سليم في باريس» ظهر له كل شيء داعيا إلى العجب. كما أن رجلنا، وهذا ما يفاجئ، راح يتكلم الفرنسية هناك بطلاقةِ من لم ينقطع أبدا عن التكلم بها. وحين سئل عن ذلك أجاب بأنه كان مهتما بتعلمها في مدرسته. كان مهتما بها فقط، هي اللغة الفرنسية، وليس ما يتصل بها من حياة الفرنسيين مثلا. لغة فقط، لغة محض، لم تترافق بمعرفة أنهم هناك في فرنسا يرسمون موديلات عارية، وهذا ما جعل عدنان يستشيط غضبا أمام العارضة، وهي قريبة لعائلته هاجر أبواها من زمن، ومن الرسامين، ومن أستاذ الرسم صديق القريبة العارضة، وهو استخدم للتعبير عن سخطه المفردات الفرنسية اللازمة متوسعا بها.
هي خمسة أيام حافلة بالأحداث، كأن أريد لها أن تنقل حياة كاملة انتهت بالخيبة. فعدنان عاش في هذه الأيام القليلة ما لم يتح عيشه لذوي الإقامات الأكثر طولا بكثير. فهو وجد من تعلّقت به (وقد أدت الدور عايدة صبرا)، ووجد أيضا من يتعلق هو بها حتى الجنون (دنيا إيدن)، وأقام علاقة مع امرأة ثالثة انتهت نهاية مأساوية، ليس على غرار ما تنتهي العلاقات العابرة. لقد حطمته فرنسا تحطيما، وشرّدته، وانتهت به، ابتداء من اليوم الرابع، إلى النوم على الرصيف. وحين عاد إلى لبنان، حيث كانت علاقته بزوجته قد انهارت، وذلك منذ اليوم الثاني لوجوده في باريس، دخل إلى بيته منهارا ومذلولا، وجثا على ركبتيه راجيا من زوجته الصفح.
«صدمة الغرب» هنا جرت سريعة، كما جرت كاملة إذ لم يفّوت المخرج وكاتب السيناريو هادي غندور شيئا مما قد يحدث لزائر فرنسا، إلا وأجراه على بطله. عدنان شخص حديث، سواء لجهة نوع عمله أو لجهة تمكنه من لغة البلد الذي سيصدمه، لكن حصل له ما يحصل عادة لشخص قديم. أحد الأصدقاء ممن شاهدوا الفيلم علّق على ذلك المشهد الذي راحت النساء الباريسيات يطلقن نظرات مركزة على عدنان الجالس في مقهى الرصيف بأن قال، ساخرا وضاحكا، إنه زار باريس عشرات المرّات ولم يحصل له شيء من ذلك.
ولم تمكّن الانفعالات المبالغة، ولا النظرات التي تطيل التحديق أكثر مما ينبغي، ولا الذهول المصاحب بالصمت، من حمْل عدنان على أن يكون بطلا فردا بالمعنى السينمائي. ذاك أن اختلاط الأحداث وكثرتها قد ضيّعته، كما ضيّعته المشاهد المأخوذة من أزمنة فائتة، منها احتشاد الجيران أمام باب بيته حاملين للمسافر أغراضهم. إذ كيف يمكن أن تعالج مسألة في السينما من دون أن يكون هاجس صانعها هو انسجام أطرافها وتماسكها. أقصد أن يجد السينمائي شيئا حقيقيا يبدأ منه ثم يبني عالمه عليه. وقد مرّ في الفيلم فاصل من ذلك حين أقحم عدنان نفسه في جلسة مثقفين فرنسيين، فبدا جهله التام دالا على غياب هذا الاهتمام من حياة اللبنانيين.
مرة أخرى يتساءل الحريص على مشاهدة الأفلام اللبنانية: لماذا نبقى هناك، عند عتبة ما قبل السينما المقنعة.
٭ روائي لبناني
عتبة ما قبل الدخول إلى السينما
حسن داوود