التجليات التعبيرية والانطباعية في لوحات الفنان إبراهيم العبدلي

التجليات التعبيرية والانطباعية في لوحات الفنان إبراهيم العبدلي

التجليات التعبيرية والانطباعية في لوحات الفنان إبراهيم العبدلي

يحتضن المركز الثقافي العراقي بلندن المعرض الشخصي الجديد للفنان التشكيلي إبراهيم العبدلي. وقد ضمّ هذا المعرض ’21′ لوحة فنية مختلفة الأحجام، ومنفّذة بالزيت على الكانفاس.
انضوى المعرض تحت اسم ‘بغداد- لندن’ وهو عنوان معبِّر يحيل إلى اهتمام العبدلي بالأمكنة من جهة، وبالطبيعة والموضوعات التراثية من جهة أخرى. ففي كل مدينة ثمة أمكنة حميمة يترّدد عليها العبدلي ليستمد منها موضوعاته وثيماته المفضّلة. وفي هذا المعرض هناك إحالات رئيسة إلى مدن عديدة عراقية وأردنية وبريطانية مثل بغداد، البصرة، الموصل، عمّان، مانشستر، ووروكشير ولندن. ينعت النقّاد غالباً إبراهيم العبدلي بالفنّان الواقعي، وهذا التوصيف قد يكون صحيحاً إلى حدود معينة، لكنه ليس دقيقاً تماماً، فالواقعية كمذهب فنيّ ترى ‘أن ذاتية الفنان يجب ألا تطغى على الموضوع′ كنوع من الإمانة في تصوير الواقع والإخلاص له. بينما يشير واقع الحال إلى أن لوحة العبدلي هي ليست لوحة واقعية بامتياز، وإنما هي لوحة واقعية تعبيرية في أغلب الأحوال أو أنها تجنح إلى الواقعية الرمزية في حالات خاصة مثل لوحة ‘العربة المحطّمة’ التي يتطلّع إليها حصان شامخ في إشارة واضحة إلى أن العراق سوف ينهض من كبوته، ويقف على قدميه متجاوزاً المحنة التي يمّر بها، أو لوحة ‘الدراجة’ التي توارى صاحبها بينما تبرز في المشهد ‘همرات’ أميركية. بكلمات مقتضبة أن مشاعر الفنان المتأججة، وعواطفه الجيّاشة، وأحاسيسه الداخلية، ومخيلته الملتهبة تجد طريقها إلى لوحة العبدلي التي تقرّبه من المذهب الرومانسي إضافة إلى واقعيته التعبيرية والرمزية.
الحركة في العمل الفني
إن ما يلفت الانتباه في معرض العبدلي هي الأعمال الفنية التي تتوفر على حركة تقوم بها الفيغرات البشرية أو الحيوانية أو النباتية. ولو تمعّنا في لوحات ‘طاعن الكَرَب’، و’صائد الغزلان’ و’الحَمَام’ على وجه التحديد لاكتشفنا من دون عناء هذه الحركة التي تقود عينيّ المتلقي ضمن القسم الأكبر من مساحة اللوحة. ثم تتكرر هذه الحركة في لوحة ‘الحَمَام’ أو الطيور قهوائية اللون حيث لعبَ الفنان على مبدأ الحركة من جهة، وعلى مبدأ التضاد القائم بين سكون بعض الطيور وحركة بعضها الآخر، هذا إضافة إلى وحدة التكوين، وتوازنه، وقوّته، وانسجامه إلى درجة كبيرة تشي بقدرة ذاكرة الفنان البصرية التي أدمنت على مُشاهدة الطيور وهي تحطّ على سطوح الأحياء الشعبية البغدادية على وجه التحديد، ثم تستعيدها في أعماله الفنية اللاحقة. تتكرر الحركة بشكل ملحوظ في لوحتي ‘صائد الغزلان’ حيث نراها مجسّدة في شخصية الصياد الممتطي ظهر حصانه وهو يتجه صوب الغزالة المُصابة، فيما تشدّنا حركة الغزال المذعور الذي فقد أنثاه. أما الحركة في اللوحة الثانية من ‘صائد الغزلان’ فتقتصر على الفيغرات الأربعة التي أثثت ملمس السطح التصويري وهي قادرة بما فيه الكفاية لأن توزّع عيون المتلّقين بين الصيّاد وجواده الذي يسابق الريح وبين الغزالين اللذين لا يشعران بأي خوف أو تهديد.
الأمكنة الحميمة
لا بد من الإشارة إلى أن العبدلي يمحض الأمكنة البغدادية حُباً من نوع خاص مثل ‘الفحّامة’ خصوصاً، أو جانب الكرخ عموماً، كما يمتد هذا الولع إلى بغداد برمتها وبقية المدن العراقية والعربية والعالمية التي وجدت طريقها إلى أعماله الفنية. وقد خلّد العبدلي هذه الأمكنة في لوحاته ويكفي أن نشير هنا إلى لوحات ‘ساعة القشلة’، ‘الكاظم’ (ع)، ‘الجادرية’، ‘شِريعة النوّاب’ و’باب السِيف’ إضافة إلى اللوحات التي تضمّنت مَشاهد من الموصل والبصرة وغيرها من المدن العراقية. وقد أضفى العبدلي أحاسيسه ومشاعره الداخلية وشيئاً من روحه على هذه اللوحات التي أخذت أبعاداً رمزية عميقة حيث أخرجها الفنان من خانق الواقعية التي تقترب من الفوتوغراف وأطلقها في الفضاء التعبيري الدال أو دسّها في الحيِّز الرمزي الغامض والمكثّف في آنٍ معا. وحينما انتقل العبدلي إلى عمّان خرج إلى الطبيعة فرسم مَشاهد لزهور ‘السوسن الأسود’ التي تُعد شعاراً للمملكة الأردنية الهاشمية. أما بريطانيا التي درس فيها التصميم ونال درجة الماجستير من ‘مانشستر بولتكنيك’ عام 1980 فقد خلّدها هي الأخرى في لوحات كثيرة أبرزها ‘شارع أكسفورد’ في مدينة مانشستر التي أقام فيها لبضع سنوات وتسللت بناياتها وأزقتها وشوارعها إلى ذاكرته، كما أن الباص الأحمر يُعد علامة فارقة في المملكة المتحدة والعراق. لم تقتصر حركة العبدلي في مانشستر، المدينة التي درس فيها، حسب، وإنما تعداها إلى مدن كثيرة أبرزها وورك ولندن وغيرها من مدن المملكة. ويمكن أن نشير هنا إلى لوحة ‘فنيسيا الصغيرة’ التي رسمها غير مرة، لكنه أضفى إليها تكوين الإوّزات التي تلهو في الماء في محاولة جديّة لبثّ الحركة التي أشرنا إليها سلفاً. إن أهم ما يلفت النظر في هذه اللوحة هو مناخها الانطباعي المتمثل بعناصر الضوء واللون التي انعكست على سطح الماء تحديداً ومنحت اللوحة فضاءً مغايراً لبقية أعماله المعروضة. تمتلك لوحة العبدلي مجمل مبادئ الرسم من وحدة وانسجام وتوازن وحركة وتضاد لوني وما إلى ذلك، والملاحظ أن الأعمال التي نفذّها في العراق والأردن قد طغت عليها الألوان الأساسية كالأحمر والأصفر والأزرق، بينما غلبت الألوان الثانوية على الأعمال التي نفّذها في المملكة المتحدة مثل الأخضر والبرتقالي وبعض الألوان الباردة التي تنسجم مع الأجواء البريطانية المعتمة في فصل الشتاء على وجه التحديد. نخلص إلى القول إن الفنان إبراهيم العبدلي قد انزاح من ولائه الكامل للمذهب الواقعي ليجد ضالته في الواقعية التعبيرية والرمزية والانطباعية على حد سواء.

m2pack.biz