في حَرَم الجامعة حبٌّ وأقصى اليمين
1. يعلمُ يقينًا أنَّها تُحبه، وأنها تتحاشى التصريح بهذا الحب حياءً. يرى قوةَ عاطفتها المشبوبة حدَّ الحيْرة والتيهِ. ويدرك كم يُؤلمها قيدُ العبارة: تغالب نفسها والكلامَ، ولكن تغلِبُها عيونُها والابتسامة، وجملٌ مُقَنَّعةٌ تنساب في جُنَح القطارات السريعة. تَدفع عنها ذكريات مدينتِها، فتسبح في الغموض الذي يلفُّ لقاءهما: كلمات مُقَطَّعة يعقبها صمتٌ. عبارات غائمة يَليها انكفاء. ضحكات مُسترقة أمام مقهى الجامعة ودروبها المُخضرَّة. يراها تُوارب مشاعرَها وتقصيها ولكنَّ “المَعنى وَقَرَ في قلب الشاعر”، فلم تعد تنفع أقنعة العاصمة، كلاَّ ولا حيلُ الإداريات. أرادت أن تظلَّ طالبةً جادةً. ولكنْ هيهاتَ.
****
2. تَعلم يقينًا أنه يُحبها، وأنه يتلافى التعبير عن هذا الحبِّ حياءً. ترى صدق مشاعره المشبوبة حدَّ الثمالة حين يناجيها، يُسائلها أو يداريها. تُدرك كم يُوجعهُ أن يمتلك فنَّ البلاغة، ولا يقول شيئًا حين يحاورها دقائق في حَرم الجامعة، أو أمام موقف الحافلات. ترى كم يداعب شَفا العبارة الهاري، دون أن يسقط بين أحابيلِ معانيها، ويُربكها أن يخنُقَ ذكرياتِه حين يتيه في براءتها، بين كتبٍ وتمورٍ. تراه يُواري مشاعرَه ويُقصيها، إن طافت بقلبه آهات الشعراء ودُفع في مَضائقهم. يلتجئ إلى أقنعة العاصمة، ولم تَعد تنفع، ولا الإداريات. أراد أن يظلَّ أستاذًا جادًا. ولكنْ هيهات.
3. يعلم يقينًا أنهما يحبان بعضَهما البعض، ويستشعر جرأةَ لقائهما. يحلمُ بإذاعة “هذا السرِّ”. ولكنه يُدرك أنه لا يملك من وسائل التعبير ما به يصوغ تقريرًا وشائيًا، يرسله إلى إدارة الجامعة أو مخْفَر الشرطة. يدرك أنه لم يَعد يعيش في مدينته العربية، يشتمُّ روائح التلصص، حين يروح ويغدو بين مكاتِب المخابرات ولجان الحِزب. لا تُمكنه فرنسيته الهزيلة – وهو لاجئ عربي- من كتابة تقرير كَيْدي: استُفيدَ أنَّ… يُربكهُ أن يرى المكتبَ مُضاءً حتى الساعة التاسعة ليلاً، تنبعث منه أسئلةٌ عن أشجار بستانه اليابسة. توجعه ذكريات قريته الغارقة في تقارير المُخبرين الذين تجاوزهم الزمن. يَسبح في وَحدته ساعاتٍ وراء مكتبه، ولا حسَّ لِحَيٍّ. يخاتل تَبَرُّمه ويقصيه. يعود إلى مكتب الحراسة. يريد أن يظلَّ حارسًا جادًا. ولكنْ هيهات.
4. يعلمان أنَّ الحارس رأى لقاءً منهما خاطفًا، وضحكاتٍ مسترقة. ويعلمان يقينًا أنَّ كلَّ واحدٍ منهما يحب الآخر، وأنَّ التصريح بذلك الحب مغامرةٌ، قد تنسف قصور رملٍ بنياها على شاطئ الغربة المقفر. يدركان أنَّ العبارة ستكون أوجع من الصمت والمواربَة، وأنَّ الضمير أسترُ للأسئلة الحارقة. يكتفيان بارتعاشة جَسَدَيْهما حين يراوغان نظراتِ الحارس أو يمران أمام مكاتب الإدارة. يستروحان ذكريات مُدن الربيع البعيدة، ويمران بثباتٍ أمام تجمع لطلبة أقصى اليمين. فتاةٌ محجبةٌ تجُوب الحرمَ الجامعي في رشاقةٍ: تتابعهما نظراتهم الحاقدة. لا يمكنهم التصريح بكراهيتهم الدفينة. تمنعهم أقنعة العاصمة، وبعض الإداريات. وكلها لم يعد ينفعُ. يَسدرون في أمْجاد ماضيهم. يريدون أن تعود المَلكية عاتيةً. ولكن هيهات.
5. يدركان يقينًا أنَّ درس اليوم صار مستحيلاً: يُغالب الأستاذ نفسه ويحملها على الإلقاء: يتعلق درس اليوم بالتوظيف السياسي لآليات السرد… ثم تضيع كلماته في شبه هذيان… تغالبُ الفتاة المُحجبة نفسها على الاستماع…ثم تغيب في هواجسها ومشاهد الثائرين يهزجون. يمر الحارس أمام قاعة الدرس متظاهرًا بالبحث عن شيء. ترتبك خطواته ولا يتقدم. يَتَفرق طلبة أقصى اليمين في هياجٍ، لا تكاد تبين رطانتهم.