ابن مسكويه 62 من 297

 

ابن مسكويه

ويلزم من هذا البحث أنه ليس بجرم، لا ناقد بينا أن كل مجرم متحرك فيكون هذا المحرك الذي لا يتحرك مبدأ وعله لوجود الأشياء وبه قوام كل جوهر ووجود كل موجود.

وإذا قد تبين ذلك،فقد علم أن الوجود من جميع الأشياء بالعرض وهو من المبدع الأول بالذات. وقد أطلقت الحكماء أن كل مايوجد من شئ بالعرض ، فهو شئ آخر بالذات، وذلك أن العارض في الشئ أثر. والأثر حركه، ولابد له من مؤثر، ويرتقي الأمر فيه إلي مؤثر لايقبل أثراً من غيره، بل هو مؤثر فقط، فالوجود إذن ذاتي للمبدع الأول لأنه لم يقبله من غيره، ومنه فاض علي سائر الأشياء التي دونه، وبه قوام صور الموجودات.

وإذا كان الوجود فيه—كماقلنا—ذاتياً فليس يجوز أن يتوهم معدوماً. فهو واجب الوجود. وماكان واجب الوجود فهو دائم الوجود، وما كان دائم الوجود فهو أزلي. وإذا كان كذلك فليس يجوز أن يتوهم شئ من أنواع الموجودات لم يتوفر عليه، لأنه عز وجل هو الذي فاض به وأعطاه ما دونه. فهو إذن من الوجود في أعلا رتبه، ووجود سائر الأشياء ناقصه عنه ومستفاده منه.

ويمكن أيضا أن نبين أن كل متحرك فإنما يتحرك من متحرك سواه علي هذه الجهه: كل متحرك فإنما يتحرك حركه طبيعيه، فالطبيعيات هي التي تحركه كما بين ذلك في كتاب السماع الطبيعي. وإن كان حركته غير طبيعيه فهي يتحرك إما بإراده وإما بقهر، فالتحرك بإراده إنما يحركه الشئ المراد كما بينا. والمتحرك بالقهر يحركه الذي قهره. فكل متحرك إذن يتحرك من محرك.

m2pack.biz