الجهد العرفاني في الكلام اليومي
أن تقول لي: (صباح الخير) في الصباح وأردّ تحيّتك بمثلها فأقول: (صباح النور)، فذلك لا يكلفني ولا يكلفك جهدا إدراكيا في فهمه لأنّه كلام عاديّ رتيب نقوله كل يوم في هذا التوقيت ولأنّه كلام مباشر ليست تحته دلالات ضمنيّة. لكن أن أقول لك صباح الخير بطريقة غير مألوفة من نوع: (ليكُنْ صباحُك كنور قلبكǃ) أو (الخير مع صباحك حلّ)،فسأكلّف ذهنك جهدا أكبر في معالجة هذه التحية التي تخرج عن المالوف.
الجهد العرفانيّ هو جهد ذهنيّ في التفكير وفي معالجة نشاط يسمّى عرفانيّا كالكلام والمشي والتذكّر وغيرها من الأعمال التي يعالجها ذهننا يوميّا مرّات. فعند الكلام يبذل المتكلم جهدا في بنائه وتأليفه ليقول ما يريد وما يراد للمتلقّي أن يفهمه كي يتمّ التواصل؛ وعند الاستماع إلى ما يقوله المخاطب،يبذل المستمع جهدا لكي يفهم هذا هو الجهد العرفاني الذي يعنينا ههنا.
بساطة (صباح الخير) على ذهني وذهن كلّ من يسمعها منّي تكمن في أنّها عبارة متداولة تعودنا على فهمها مثلما تعودت سيقاننا على المشي. المشي حركة معقّدة جدّا ومعالجة الذهن لها معقّد أيضا وإدراكنا لتعقيدها حدث حين كنا صغارا ننتقل من الحبو إلى المشي، لكنّنا بتنا نمشي مثلما نتنفّس وبتنا نقول صباح الخير ونفهمها مثلما نمشي بكل يُسر. لكن ليس للكلام اليومي دائما هذا الوقع البسيط على الذهن دائما؛ ففي الكلام اليومي ما يقع إدراكه بشقّ الأنفس حتّى إنّ الجهد العرفاني لا يوصل إلى مدارج الفهم فيعود الفهم بخفّي حنين.
حين أستعمل المثل «عاد بخفي حنين» في هذا السياق يبذل ذهن القارئ الآن وهنا جهدا أكبر في الفهم ؛فهو لا شكّ يعرف السياق النظامي لهذا المثل إذ يقال لمن عاد بيد فارغة وأخرى لا شيء فيها وسيذكر قصّة المثل كما ورد في التراث العربي ثمّ سينظر في السياق الذي أوردتُ فيه العبارة وهو سياق مجازي يشخّص مجرّدا أو «يُحَسْحِسُه» ليجعله يعود من رحلة الفهم خاوي الوفاض. مسكين هذا الذهن كم سيتعب وهو يسعى إلى فهم هذا المثل بما هو قول ثابت مسكوك يستعمل في سياق التعبير عن الفشل والفشل أنواع والفاشلون أضرب. هذا التعب الذهني في فهم عودة غير حنين بخفّي حنين سيهون حين يصل الذهن إلى الفهم: أنّ ذهنا ما لن يفهم؛ لكن تصوّروا قارئا لا يفهم المجاز الدائر حول المثل لأنّه لم يسمع به ولا بقصّته سيكون ذهنه في وضعيّة من عاد بخفيّ حنين والمأساة أنّه لا يعرف لا حُنين ولا خفه الذي عاد به غيره.
في الكلام اليومي البسيط لا توجد رسالة أحاديّة الدلالة وأن نتحدّث عن دلالة أحاديّة للكلام فذلك من باب التبسيط لا غير ؛ حين أسأل التّاجر: هل عندك ملح؟ يمكن ألاّ يفهم السؤال فهما بريئا براءة من صاغه فسيجيبني: وماذا أفعل هنا إن لم يكن عندي الملح؟ لقد فهم التاجر غير ما قصدته : فهم أنّ سؤالي ما كان عليه أن يطرح وأنّ دكّان تاجر بلا ملح هو كقدر طعام بلا ملح وسأفهم من سؤاله أنه لا يسألني بل يتعجّب وأنّه منزعج مني وربما فهمت من ذلك أنّه عصبي أو مزاجي أو سيئ الخلق وربّما تأففت من تأوليه فأقول «أوف ǃ» وأخرج.. وربما قال عندئذ: «ولا تقل لهما أفّ» فأجيبه : ما أبعدك عن أبي.. حديث يوميّ كهذا ليس يسيرا، إذ فيه جهد إدراكي كبير من الطرفين. فيه يعالج الذهن لا الدلالة المباشرة بل المتخفية وراءها. في معالجة الكلام اليومي قرار يتخذه الذهن لتغليب دلالة على أخرى وهذا القرار يتطلب بذل مجهود في الفرز والاختيار. أن يجيب التاجر : نعم عندي ملح، وهو يعلم أنّ سؤالي ساذج ليس له أن يطرح، ففي ذلك الجواب اختيار بعد اتّخاذ قرار بالجنوح إلى جهة غير مشاكسة. لكن تصوّروا أن يقول لي التاجر بعد تأفّفي «ولا تقل لهما أف» ولكني لا أفهم ما قصد إمّا لأنّي لا أعرف الآية أو لأنّي أعرف الآية ولم أتبيّن القصد من استخدامها، فإنّي عندئذ سأفشل بعد جهد إدراكي كبير في الفهم وبالطبع سيكون من الهزليّ جدا أن أعود إلى التاجر و أرجوه أن يشرح لي ما قصد؛ سيكون طلبي الشرحَ حجة عليّ وبرهان هزيمة مدوّية لذلك سأتحمّل خذلان ذهني لي وقلّة ذات اليد الثقافيّة وسأنصرف لا هازما ولا مدحورا.
الجهد الإدراكي يبرز أكثر في التواصل بكلام غير صريح أو مباشر في ذلك الكلام على المتكلم أن يفهمه بجهده الذاتي. نحن نجنح إلى الكلام الضمني هروبا من الإزعاج أو رغبة في التخفي. هناك ضربان من الضمني: المقتضى والتلميح. المقتضى هو معلومة ضمنية تستنتج من كلمة أو أكثر موجودة في الملفوظ فحين أقول توقّف زيد عن التدخين) فإنّ في هذا الكلام اقتضاء معلومتين :أولاهما أنّ زيدا لا يدخّن الآن و الثانية أنّ زيدا كان يدخّن سابقا. ذهني سيعالج المعلومة وسيتّخذ قرارا يجعل مضمون الأولى هو الهدف المؤكّد من التواصل، وسيجعل مضمون المعلومة الثانية شيئا كماليّا أو معلومات إضافية ملحقة أو أكسسوارات. تصوّروا أني أسأل عن المعلومة الثانية سؤالا صريحا: هل كان زيد يدخّن؟ لن يكون هذا السؤال ساذجا لأنّي قصدت أني لم ألاحظ أنّه دخّن حين كان يدخّن وعلى ذهن سامعي أن يفهم هذا الفهم وسيجيبني مثلا: «زيد يحترم أساتذته احتراما كبيرا» سننتقل بذلك من المقتضى إلى التلميح في ثوان.
التلميح حسب أوركيوني هو كلّ المعلومات القابلة لأن تستثار بواسطة قول معطى ولكنّ تحقّقه يظلّ رهينا بخصوصيّات السياق الذي قيل فيه؛ فعلى سبيل المثال قول من نوع (إنّها التاسعة صباحا) يمكن أن يدلّ حسب السياق على أنّ الوقت متّسع أ وضيّق؛ فإن قلتها لشخص له موعد في منتصف النهار وفي مكان قريب، فأنت تذكّره بأنّ الوقت الكافي ما يزال أمامه؛ وإن كان الموعد على الساعة التاسعة والنصف في مكان بعيد، فهذا يعني أنّ الوقت ضيّق والموعد يمكن أن يبطل. الجواب التلميحي يسْتنتج بالاعتماد على ما يسمّى الحوسبة التأويلية أي اعتمادا على ما لدينا من مواضعات ومن قدرة تأويلية تجعلنا نحوسب الكلام لا في ضوء ما يحمله من دلالة مباشرة بل ما يرمي إليه عبر مسافات.
نحن نبذل يوميّا في نشاطنا الكلاميّ جهدا عرفانيا مهمّا يقبل الحوسبة الذهنية ويقبل القياس و العدّ بمقاييس ليس هذا المقام صالحا للخوض فيها لدقتها، لكنّه يظلّ خفيّا لا يمكن أن يرى بل لا يمكن أن يُلمس أو يشتكى منه؛ فقد يشكو المرء من طول المشي ومن عناء الحفر بالفأس غير أنّه لن يشكو من فرط التّعب من الفهم أو من قلّة الفهم ربّما لأنّ فكّ شيفرة الكلام في مرات كثيرة تنسي حلاوته مرارة الجهد المبذول فيه: أي أنّ الذهن يسعد في تحصيل الفهم فلا يشعرنا بأنّه أشقانا.
٭ أستاذ اللسانيّات في الجامعة التونسية