القاهرة للكتاب تَفْكيك خطاب المعرض الثقافيّ

القاهرة للكتاب.. تَفْكيك خطاب المعرض الثقافيّ

القاهرة للكتاب.. تَفْكيك خطاب المعرض الثقافيّ

التصَدُّع العربي الكبير لم يدع الثقافة في سلام. هي أولى ضحاياه التي كانت، في البدء، لامرئية وأصبحت، الآن، العلامة الساطعة على هذا الخراب. واليوم، صار يسهل الاستدلال على «انفِراط عقْد» العالم العربي الكاسح من منظور ثقافيّ بحت. وكل التشدُّقات السياسية النافية، والمظاهر الشكلانية المرائية التي يَعُجّ بها هذا العالم تبقى بلا جوهر، بل هي تبدو وكأنها الدليل الأكبر على «خروج العالم العربي من التاريخ الحديث» على الرغم من طاقاته التي لا تُنْكَر. ومَنْ لا يريد أن يقتنع بذلك ما عليه إلاّ أن يزور معرض القاهرة للكتاب.
ولكن لماذا «معرض القاهرة» بالذات؟ لأننا نحب القاهرة، المدينة الأسطورية التي أوحتْ للعديد منا بكثير من الأحلام. وعلَّمتْنا ما لم تعلِّمْنا أياه مدينة عربية أخرى. ولأنها أكبر مدن العالم العربي. وهي من المدن الكونية الكبرى. وبسبب كتلتها البشرية العظيمة، كان يجدر بها أن تكون مختبراً حيّاً للثقافة الإنسانية في العالم، لا في العالم العربي، وحسب. ولأن… ولكننا في «معرضها» الهائل لا نشمّ رائحة الثقافة بقَدْر ما نشمّ رائحة الشواء. وفي ممرّاته العتيدة لا تُعرَض «الإبداعات» الثقافية بشكل يليق بها، هذا إذا كانت متوفّرة، حقاً! والثقافة، كما أتصوّر، هي الكائن ذاته وقد تحوّل إلى لغة، فكيف نهملها؟ وعلى العكس مما نطمح إليه ونفتقده بعمق، أعني « الثقافة الإنسانية المتعددة المصادر والأهواء»، صار فضاء هذا المعرض الشاسع، مرتعاً لكل ما هو لاثقافيّ.
فيه تُعرَض، بشكل صارخ، سِلَع شتى، وبضائع متنوعة، ومأكولات لا تثير الشهية، وكثير من الأغراض الأخرى التي لا محل لها بين أكوام الكتب والأوراق. ومع أن هذا العَرْض المختلط لا يشكل عيباً في المطلق«للمسألة الثقافية»، إلاّ أنه يتحوّل هنا إلى «غاية لاثقافية» قائمة بذاتها. وهذا الشَطَط البضائعيّ هو ما يكسر رغبة الاكتشاف لدى الزائرين، هذا إذا كان ثمّة ما هو جدير بالاكتشاف، أصلاً.
وفيه، نكتشف سريعاً انحسار دَوْر «البيوت الثقافية» الأساسية. انحسار مُريب كما هو مؤلم وشرير، لتلك المؤسسات الجليلة التي ألْهَمتْنا أفكاراً طليعية، ذات يوم، وأمَدَّتْنا بقراءات ذات بُعْد تاريخي، وبأساطير لا تُنْسى أغنت مخيلاتنا كثيراً. من منشوراتها تعلمنا كل شيء: الرفض، والتمرد، والحب، وحب الحرية، والانفتاح على العالم، وشغف الأسفار. وكذلك، حتى نكون منصفين: الخنوع، والتبرير، وغَضّ الطَرْف، و… التي تبدو، اليوم، وكأنها اختفت من الساحة بعد تَهْميش دَوْرها التاريخيّ الرائد. وإذا كانت ما زالت موجودة فقد صار مكانها، لسبب نجهله (وإنْ كُنا نعلمه بدقة) في القاعات الخلفية التي لا تصلح إلاّ للدَفْن، ومَنْ يتوقَّع لها، الآن، مكاناً أفضل، في هذا الوضع العربي البائس؟
انحسار دَوْر مؤسسات النشر الطليعية المؤسف الذي يعني «موت الثقافة» التي نعرفها ونحبّها، أفسح المجال أمام ظهور دُور نشر مستحدثة، حتى لا نقول مستَوْعَبَة، أخذت تكتسح فضاء المعرض بشكل مثير للقلق، بعد أن تكاثرت كالفطر السام في الفضاء الثقافي العام. وهو أمر يدعو للتساؤل حول مصير الثقافة العربية ومستقبلها، إنْ ظلّ لها حظ منه. وهذه «الدُور الطَبّاعَة» التي لا تَقرأ، هي، في الواقع، بلا تاريخ ثقاقي. وليس لها منظور إبداعيّ، ولا سياسة معرفية واضحة. ولا تملك تصوّراً ثقافيّاً خاصّاً للعالم الذي نعيش فيه. همّها الوحيد هو استخدام «السلعة الثقافية»، وابتزاز «منتجيها» البؤساء، ولذا فهي لا تبحث عن المختلف والمتحرر والمتَفَرِّد، وإنما عن مدى قابلية ما «تقذفه» مطابعها للبيع. شاغلها الأساسي، إذن، هو مقدار ما يمكن أن تكسبه من تجارتها «بالسلعة الثقافية» التي تَتَصيَّدها، كما يتَصيَّد القط الجَشِع فأراً. أما الثقافة الإنسانية العظيمة تلك التي تغني مخيّلة الكائن، وتحرر سلوكه، فلا تشكِّل لها همّاً. وهي بنشاطها الملتبس هذا تكرّس ثالوث السلطات العربية المحافظة الثقافي: التخلّف والركود والابتسار.
وإخيراً، في هذا المعرض العصيّ على التعريف، لا تتجلّى إرادة المعرفة والتجديد، بقَدْر ما تتَمَظْهَر إرادة الجهل والتقليد، حتى لا نكاد نلمح لا حماسة، ولا توتّراً، ولا تنافراً بين أهل الثقافة الذين يؤمّونه برَغَد وكأنهم في نزهة أهلية؟ لكأن دخوله يُجَرِّدهم من الشغف والاستياء، وهما أهمّ خاصتين إبداعيتَيْن لدى الكائن. فيَبْدون بلا موقف في الوجود (أو أنهم لا يريدننا أن نتعرّف عليه. وذلك أكثر بؤساً)، منكفئين على أنفسهم الكئيبة، غير معنيين، كما يبدو عليهم، بما يدور حولهم من كوارث عربية، ومآسٍ بلا حدود، لكأنهم لا يعيشون أزمات عصرهم ولا يعرفونها!
أنكون قد دَخَلْنا، حقّاً، في حقبة «موت الأحاسيس» العظمى التي كانت تحرِّك المبدعين قَبْلنا؟ وهل يشرح ذلك سيادة الابتذال الثقافيّ المعَمَّم الذي صار يذهلنا مثل مزحة ثقيلة؟ عَلامَ، إذن، كل هذه الضوضاء؟ وما الجَدْوى الثقافية من هذه الحُشود التي تدوس أرض المعرض بأقدامها المتعثِّرة، إذا كانت رؤوسها فارغة من المقولات المحَفِّزة، ونفوسها خالية من التوتّر والتمَرّد والتحدّي؟ ثقافة البؤس هذه، هي التي ستوصلنا سريعاً إلى بؤس الثقافة، إنْ لم تكنْ قد أوصلتنا إليه من قبل. وهذا الوضع المقلق لا يعني إلاّ شيئاً واحداً: انهيار الثقافة الإنسانية الطليعية في العالم العربي، وعلى رأسه مصر، سيكون عاملاً أساسيّاً بين عوامل أخرى كثيرة، ستؤدّي، في النهاية، إلى الانهيار الكارثيّ لهذا العالم.
٭ كاتب سوري

m2pack.biz