انعتاق من حيز النص ./ أحمد حمدان

انعتاق من حيز النص…/ أحمد حمدان

[caption align="aligncenter"]انعتاق من حيز النص...- أحمد حمدانانعتاق من حيز النص…- أحمد حمدان[/caption]

لا أدري متى وكيف حصل هٰذا، كل ما أعرفه هو أنّي الآن في هٰذه الساعة المتأخرة في الثالث من شهر تمّوز أكتب ما أكتب… استيقظت في هٰذا اليوم على سريرٍ لا أعرفه، في غرفة لا أعرفها، في بيتٍ لا أعرفه. حاولت جاهدًا أن أستذكر أحداث البارحة علّ ذلك يدلّني على مكان وجودي الآن، لكن عبثًا، كأنّي قد ولدت في هٰذه اللحظة… كانت الغرفة مليئة بالأغراض، ومكتظّة بالأوراق والصور المعلّقة على الجدران والمبعثرة على الأرض، تملؤها كتابات لم أعرها انتباهًا، فقد كنت أتلمّس الجوانب وأتفحّص مكاني… قطع صدمتي وارتيابي رنين هاتفٍ كان على جانبي في السرير، مسكته لأقرأ أن المتّصل هو شخص يدعى خليل. من هو خليل يا ترى؟ ولمن هذا الهاتف أصلًا؟ لكنّي وجدت نفسي قد استقبلت المكالمة بشكل تلقائي، وبدأت المحادثة: – السلام عليك يا مجد.. فأجبته دون أن أدري من هو مجد: وعليك السلام – آسف على التأخير صديقي، فلقد استمرّت الحفلة حتّى ساعة متأخّرة من الزمن، سألتقيك بعد نصف ساعة في مقهى العرب – حسنًا، أين هو هٰذا المقهى؟ – أنت لا تنفكّ عن المزاح أبدًا، أراك بعد قليل، مع السلامة. وأغلق الهاتف. أما أنا فقد جلست حائرًا، من هو مجد يا ترى؟ ولماذا وجدت هاتفه على سريري؟ من قال إن هذا هو سريري أصلًا؟ أيعقل أنّي في بيته؟ لكنّي لا أعرف أحدًا باسم مجد؟ لٰكن لحظة… بل… من أنا؟! هنّا، عند هٰذا السؤال أصابتني رعشة شديدة… خفق قلبي بشدّة، وبدأ وجيبه يصمّ أذنيَّ… حاولت جاهدًا أن أستذكر أسمي لكنّي لم أفلح، أيعقل أنه ليس لي اسم؟ هل يعقل أن ينسى أحدهم اسمه؟ قمت مذعورًا من السرير، وتوجّهت مباشرة نحو مرآةٍ معلّقة في إحدى زوايا الغرفة… يا إلهي!، كأنّها المرّة الأولى التي أرى فيها نفسي، هل هٰذا أنا؟ شعرٌ طويلٌ وذقنٌ كثيف؟! لحظة… لكنّي لا أعلم أساسًا كيف يجب أن أكون، فأنا لا أذكر شكلي بالماضي، فما هذه المقارنات إذًا؟ لا جدوى. عدت حائرًا مهمومًا متثاقلًا تعبًا لأجلس على طرف السرير، وتساءلت: هل هٰذا حلم؟ أم أنَّ أحدهم يعبث بي؟ لا يمكن، فليس بامكان أحدهم أن يحجب عنك ماضيكَ. انتبهت لهاتف مجد المضيء صدفة، كان قد ظهر في أعلاه أن التاريخ هو الثالث من تمّوز… قطع تفكيري أحدهم كان قد مرّ بمحاذاة النافذة، وأطلَق صرخةً حيّاني بها قائلًا: السلام عليكَ يا مجد! إذن، أنا هو مجد، وهذا الهاتف لي! كيف لهذا أن يحدث؟ أشعر حقًا أنّي قد ولدت في هذه اللحظة، أيعقل أن ينسى أحدهم اسمه؟ وشكله؟ ومعارفه؟ من هٰذا الذي حيّاني؟ ومن هو خليل؟ آه، خليل، كدت أنسى، إنّه ينتظرني في مقهى العرب، علي أن أذهب بسرعة، فلربّما يسعفني هٰذا ال خليل على معرفة مصيبتي. خرجت من الغرفة مسرعًا، بعد أن وضعت الهاتف في جيبي، وسرت على غير هدى، فأنا لا أعلم أين يقع مقهى العرب، وكذلك لا أعرف هذه الشوارع والأشجار والبيوت، لكنّي لمحت مقهى في آخر الطريق، فقررت التوجّه إليه لانعدام خياراتي، وبالفعل، عندما وصلت، وجدت لافتة كتب عليها مقهى العرب. دخلت بغربةٍ للمقهى، أنظر الى وجوه الحاضرين علّي أعرف أيّهم خليل. في آخر المقهى لوّح أحدهم لي بيده، كان أسمر اللون وداكن الشعر، فقلت لا بدّ أن هذا هو خليل، فذهبت إليه، وسحبت مقعدًا، وجلست بعد أن صافحته، وقد لاحظت أن تعابير وجهه قد تغيّرت، وبدأت المحادثة: – كيف حالك يا مجد؟ – لا أعلم، وأنت؟ كيف حالك؟ – أنا بخير، لكنّي أستغرب مجيئك لهذا المقهى، ما الذي أتى بك إلى هنا؟ – أنت دعوتني – أنا؟! متى؟ وكيف؟ – ألم تهاتفني قبل قليل؟ – لا – إذًا أنت لست خليل؟ – هل جننت؟ ما الذي أصابك؟ ما هٰذا السؤال؟ حاولت استدراك الموقف بسرعة، لأنقذ نفسي من هذه الورطة، فمن الواضح أنني قد أخطأت، فهٰذا ليس بخليل، وقلت: لا تقلق، إنّي أمازحك، لكن خليل هاتفني وأنا هنا لملاقاته. فأجاب: ‘لا يروق لي مزاحك أبدًا’، ثم أشار إلى شخص يجلس في الزاوية الأخرى، وقال: خليل يجلس هناك. فقمت واتجهت لهناك، كان خليل أبيض اللون، قصير الشعر والذقن، وما أن رآني حتّى قام عن كرسيّه وعانقني وبدأ الكلام: ما بك؟ تبدو كمن فقدت أحدا فقلت: في الحقيقة، فقدت نفسي. فرد ضاحكًا: كفاكَ هٰذا الكلام. ثم أردف: علينا الذهاب، فالجميع قد وصل إلى الحفلة، ونحن تأخرنا. كنت قد بدأت باستيعاب أن مصيبتي عظيمة، ولا أستطيع شرحها لأحدهم، ولذلك لم اسأل خليل أي شيء، وانطلقت معه إلى حيث لا أدري لملاقاة من لا أعرفهم. وفي الطريق، وصلت رسالة إلى هاتفي من رقمٍ غير مسجّل مفادها: ‘لقد تأخّرتم، أين أنتم؟’! فأجبت: نحن في الطريق. دون أن أعلم من هو المُرسل. عندما وصلنا، ازدادت صدمتي، فالجميع يحيّيني ويعانقني، وأنا لا أتعرّف على أحدهم، قاطعت صدمتي إحدى الفتيات بعد أن شدّتني من يدي، وأجلستني إلى جانبها، كانت كالمجنونة، فبين الحين والآخر كانت تغامزني وتلامزني وتداعب أطرافي بأصابعها، وبالرغم من أن ذٰلك لم يرق لي بتاتًا، لكنني وبسبب تصرفها بأريحيّة تامة، بدا لي أن هٰذا ما يجب أن تكون الأمور عليه، فهي إذن من بعث لي برسالة تأنيبٍ لتأخّري، وهي إذن من كان ينتظرني، فربما بل وأكاد أجزم أن هٰذه الفتاة هي صديقتي الحميمة، ولكنني لا أتذكّرها، ولم أشأ أن أعلمها بذٰلك لما في ذٰلك من حرج، فأتحت لها المجال وأزلت لها الحواجز… بعد قليل من الوقت، رنَّ هاتفي منبّهًا إيّاي بوصول رسالة من ذات الرقم غير المسجّل، كان مفادها: ‘يا لوقاحتك، كيف تسمح لهٰذه العاهرة أن تقترب منك بهٰذا الشكل؟ كيف تسمح لنفسك أصلًا؟ ألا تستحي على فعلتك هٰذه أمامي وأمام الجميع؟ لقد انتظرت مجيئك طويلًا، أهٰذا ما تقابلني به؟’! دفعت تلك ‘العاهرة’ عنّي بعنف قبل أن أتمّم قراءة الرسالة، ونظرت في وجوه الحاضرين، ووجدت أن أجمل الفتيات تنظر إليَّ بحنقٍ وغضب، فأيقنت أني وقعت في ورطة لا مفرّ منها، ولا أملك أيّة وسيلة تبريرٍ مقنعة، كيف لي أن أشرح وأفسّر لأحدهم ما الذي حصل؟ غادرت الحفلة مسرعًا، وخرجت راكضًا مرعوبًا متّجهًا إلى الغرفة التي استيقظت فيها، دخلتها، وألقيت بنفسي على السرير متعبًا منهكًا. وفجأة، وبعد مرور بضعة دقائق، أثار انتباهي شيء ما كتبَ بخطٍ كبيرٍ مزخرفٍ على سقف الغرفة باللون الأحمر، أكاد أجزم أنّه لم يكن موجودًا حينما استيقظت، فيستحيل على أحدهم ألّا ينتبه لهذه الكتابات، كان محتواها: ‘حاول ألّا تفزع يا مجد – بالرغم من أنا هذا مستحيل -، فقد يبدو لك ما ستقرأ الآن ضربا من الجنون، لكنّي سأوضّح لك الأمور تدريجيًا… في البداية، سأقص عليك سريعًا ما جرى معك حتى اللحظة، فلقد استيقظت صباح اليوم لا تعرف مكانك، ولا تتذكر أسمك أو شكلك أو عمرك أو معارفك، وقد تلقيت اتصالًا من صديقك خليل الذي لا تذكره، وكاد أن يصيبك الحرج في المقهى عندما أخطأت التعرّف على خليل، وبعدها أخطأت التعرّف على صديقتك، فأنت لا تذكرها، وقد غضبت منك كثيرًا، فما كان بك إلّا أن تلوذ بالفرار وتأتِ الى هنا لتقرأ ما تقرأ…’ توقّفت عن القراءة للحظة وقلت: ما هذا يا إلهي؟ أهناك من يتابعني؟ من الذي كتب هذه الكتابات؟ وكيف له أن يعلم كل ما يحدث معي جملة وتفصيلًا؟ وقمت أتفحّص الخزائن، وأنظر من النوافذ علّي أجد هذا السخيف الذي يعبث بي، فلم أجد أحدًا، فعدت لأكمل قراءة ما قد كتب: ‘… ها أنت تدعوني بالسخيف، ليس هناك أي داعٍ لأن تفتّش عن صاحب هذه الكتابات، ولا تقلق، ليس هناك من يتتبّعك، دع الخزائن وشأنها، فلن تجد أحدهم…’ توقّفت عن القراءة وصرخت بجنون: مستحيل!، هذا ضربٌ من الجنون! وأكملت القراءة: ‘… لقد قلت لك مسبقًا أنّ هذا سيبدو لك ضربا من الجنون، مجددًا، حاول ألّا تفزع، وكفَّ عن البحث عنّي، فلن تجدني، فأنا في عالم آخر غير عالمك، وأنا أستطيع أن أتحكّم بك كيفما أريد، وأستطيع أن أقصّ عليك كل ما يجري حولك الآن، وإن كنت لم تصدّقني بعد، فأنت مدعو للمحاولة، فبإمكانك قول ما تريد، أو فعل ما تريد، أو التفكير بما تشاء، وستجده مباشرةً قد كتبَ هنا…’ توقّفت عن القراءة وقلت بنفسي، لا يمكنه أن يعلم بماذا أفكّر، وأكملت القراءة: – ‘… بل أستطيع…’ – ما هذا يا الهي؟! هل أنا في حلم؟! – ‘ … كلّا أنت لا تحلم، لكن ببساطة، عليك أن تسلّم بهذا الأمر، فأنا أتحكّم بك تمامًا، ببساطة… أنا خالقك…’. شعرت حينها برهبة لم أعرف لها مثيلا، وكدت أصاب بالجنون، لكنّي تحاملت على نفسي وأكملت القراءة: ‘… نعم، انا خالقك، لكنّك لم تخلق من طين مثلي أنا، وكذلك الأمر بالنسبة لأصدقائك الذين لا تذكرهم، وكل من صادفتهم، فأنا خالقهم، وكل ما صادفته أو ستصادفه من أشجار وبيوت وأحاسيس وأفكار، أنا أيضًا خالقها… دعني أعرّفك على نفسي يا مجد، أنا أدعى أحمد، ولست إلّا كاتبا هاوياٍ، وأنت وأصدقاؤك لستم إلّا شخصيّات ما في هذه القصّة، التي ابتدأت باستيقاظك في سرير ما هذا اليوم، لكنّي ميّزتك عنهم، وجعلتك تفلت من حيّز النص، أما هم فقد زرعت لهم ذكريات وهميّة فلن يميّزوا حقيقة كونهم مجرّد شخصيّات في قصة ما. لا تحاول الكشف أكثر، فسوف يزيدك عمق الكشف غموضا.. والآن حان الوقت للتوقّف عن الكتابة، فلقد مللت منها ولذلك، ستنتهي أنت الآن’.

]]>

m2pack.biz